الداخلة،
مثلها مثل سائر مناطق مصر، لا يقتصر سكانها على المزارعين. بل توجد نسبة من
سكانها، تنتمي إلى البدو. وبالرغم من أنهم ليسوا بالأغلبية على الاطلاق، لكن
وجودهم ملحوظ، وأثرهم ملموس. وقد التقيت بهم وتحدثت معهم، خلال الأيام التي
قضيتها، في قرية القصر.
قبل
ثلاثينيات القرن العشرين، لم يكن هناك بدو يعيشون بالداخلة، إذ كان كل سكان
الواحة، من المزارعين. لكن في تلك الفترة، حلت قبيلة "الرشايدة" على
الواحة. جاءت بأغنامها وجِمالها، لتستقر فيها، وتصبح وطناً جديداً لها. وكان أول
ما لفت نظري عند التعامل مع بدو المناطق المحيطة بقرية القصر، هو العلاقة الجيدة
التي تربطهم بأهل القرية الأصليين. والاحترام والتقدير المتبادل، والذي يظهر في
تعاملاتهم، وكلامهم عن بعضهم البعض. وهي ظاهرة تستحق الدراسة، لأن مثل هذه العلاقة
لا تتوافر دائماً، في أماكن اخرى كثيرة، في سائر ربوع مصر. ففي حين تجد بعض
الفلاحين، في أماكن أخرى، ينظرون للبدو بارتياب شديد، ويعاملونهم بوصفهم
"قطاع طرق". ويبادلهم بعض البدو النظرة المتعالية بمثلها، فتسمع منهم من
يقول عن ابنته:"ياكلها التمساح.. ولا ياخدهاش الفلاح". لكنك لا تجد ذلك في
واحة الداخلة. فهم، بشكل عام، يعيشون معاً في وئام، واحترام متبادل. تلمح ذلك في
أعينهم، كما تراه في تعاملاتهم، مع بعضهم البعض.
حين
وصل الرشايدة إلى القصر، وغيرها من قرى الداخلة، لم يكن هناك بدو غيرهم. ولم يؤدي
قدومهم إلى صِدام مع السكان الاصليين. فقد كانت الصحراء المحيطة بالقرى جرداء.
وكان هناك ما يسمى "بالدولاب"، يُستخدم لاستخراج المياه من الأبار
الرومانية. فأستقبل الواحاتية القادمين الجدد. وأستقر الجميع. في الوقت الذي اخذت
فيه الرقعة الزراعية، في الاتساع.
والرشايدة
أصولهم من الجزيرة العربية، من نجد والمدينة المنورة. وهم ينحدرون من قبيلة
"عبس" العربية القديمة. هاجر أجدادهم القدماء من الجزيرة العربية،
وذهبوا إلى السودان، ثم نزحوا منها إلى اسوان، فسوهاج، فباريس في واحة الخارجة،
وصولاً إلى الداخلة.
وهم
ما زالوا محتفظين بعاداتهم الأصلية، التي جاؤوا بها من الجزيرة العربية. فعاداتهم
في الأفراح، مثلاً، تختلف اختلافاً كبيراً عن عادات أهل الواحات الأصليين، ففي حين
تكون الدعوة للفرح عامة، عند أهل الواحات، وتشمل القرية كلها. لكن لا يمكن للبدوي
ان يذهب إلى فرح، لم يتلق الدعوة لحضوره. وفي هذه الأيام، يجلس العريس والعروسة،
في الكوشة، في الأفراح الواحاتية. لكن لا يوجد اختلاط بين الرجال والنساء، في
الأفراح البدوية. وتحتفل البنات فقط بالعروسة، التي تذهب لبيت زوجها مباشرة، ولا
يراها الرجال. ويقوم الشباب بزف العريس حتى بيته، وقت المغرب.
ولدى
الرشايدة عادة تسمى "الجَويدة". وهي عبارة عن أضحية، يقدمها المدعوون
لصاحب الفرح، الذي يقوم بتجميعها، وذبح الكمية التي تكفي المدعويين. ويحتفظ
بالباقي. وهناك لعبة، تسمى "الزريبي". يقف فيها المدعوون في الفرح صفين
متقابلين، ويتبارون مع بعضهم البعض، عن طريق القاء الشعر، والقصائد.
وكانت
الأفراح البدوية تشمل سباق "الهجن"، الذي تحول الآن لسباق في المشي، أو
العدو. ويحظى الفائز بأفضل قطعة لحم، والتي عادة ما تكون الكبد، ثم يذهب بها إلى
والدته، ويقدمها لها، وهي جالسة وسط سائر "الحريم".
وللبدو
قوانينهم العرفية، حيث يقومون بحل مشاكلهم، عن طريق عقد جلسات عرفية، يحضرها
المشايخ. ويتولاها قضاة منهم، معاهم مستشارين. وهم يقومون باصدار الأحكام، وفقاً لشهادات
الشهود، وأدلة الثبوت.
ولنضرب
مثالاً على ذلك، فإذا ما قام شخص، بسب شخصاً أخر بأمه. أي كال له سباباً، يعد
اتهاماً يتعلق بالشرف. فيقوم القاضي أولاً بالتحقق من صحة الواقعة، ومن كون المتهم
قد قام بهذا فعلاً. وعند ثبوت التهمة، يقوم القاضي بتخيير المتهم، بين أن يشتري
لسانه، أو يتم قطعه. بمعنى ان يدفع لمن تعرض للسباب، مبلغاً من المال، يرتضيه هذا
المضرور، أو أن يتعرض لسانه للقطع.
أما
لو رفض المتهم اللجوء للقضاء العرفي من الاساس، ولم يقبل الخضوع لأحكامه، تطبق
عليه أحكام "القُرعة"، وينطقونها بالجيم، وليس القاف. وهي تقتضي نبذ
المتهم من المجتمع، ومنعه من دخول اي بيت، غير بيته. لكن قد تُحل هذه الأزمة، عن
طريق ضرب المتهم، بدون أن يتدخل أحد من أهله، لحمايته.
وفي
حالة جرائم القتل، يُقتل القاتل وحده، دون غيره. فلا يتعرض أي من اخوته أو اولاد
عمومته لأي أذى. كما يمكن للقتل أن يطاله، مهما طال الزمن. أما في حالة القتل
الخطأ، فيمكن لأهل القتيل الاكتفاء بالحصول على الدية، إذا ما رضوا بذلك. وهي عادة
ما تكون مائة ناقة، أي ما يساوي حوالي مليون جنيه اليوم.
هذه
بعض عادات البدو الرشايدة. وهم غالبية البدو في واحة الداخلة. لكن هذا لا يمنع من
وجود بعض البدو من قبائل اخرى، كالشرارات، والمطير، والعوازم. وهم إن كانوا اقلية
في الداخلة، فلربما يكونوا أكثرية في واحات وأماكن أخرى. كما إنهم قد يتفقوا مع
الرشايدة في بعض العادات والتقاليد، ويختلفوا معهم في البعض الآخر.
وقد
عرفت من خلال كلامي، مع بعض أهل القرية، من الفلاحين والبدو، أن البدو، لم
يستخدموا السلاح، سوى مرتين فقط.
كانت
المرة الأولى، خلال فترة الإنهيار الأمني، الذي صاحب قيام ثورة يناير. فقد جاء بعض
المسلحين من الصعيد، وإختطفوا بهائم من بعض سكان القرى الأصليين. كما قام بعض
تابعيهم بشراء بهائم من بعض الأهالي، الذين سرعان ما أكتشفوا أن النقود مزورة.
ولما لم يكن لديهم القدرة على مطاردة المسلحين، لأنهم لا يمتلكون سلاحاً. فقد لجأوا
إلى جيرانهم البدو. ونظراً للعلاقة الجيدة، التي تربطهم ببعضهم البعض، فقد قام
البدو بمطاردة اللصوص على الطريق، ووسط الجبال، حتى نجحوا في الإيقاع بهم في
النهاية، وأستردوا المسروقات.
كما
استخدموا السلاح لمرة ثانية، تعرض فيها أهل الواحة للبلطجة من بعض الوافدين
المسلحين، فقام البدو بالتصدي لهم ايضاً. وتم حل الأزمة عن طريق القضاء العرفي
البدوي.
وأعتقد
أن طبيعة أهل الداخلة السمحة، ساهمت في إحتوائهم للبدو الوافدين. وبادلهم البدو
ذلك، فعاشوا معاً في سلام. وذلك على الرغم من الإختلاف الكبير بينهم، في الطباع
وأسلوب الحياة. ولو إنتبهنا لهذه العلاقة، وحللنا أسبابها، لربما نجحنا في فض
الإشتباك، في كثير من المناطق المحتقنة، اليوم، في مصرنا الحبيبة. والتي يتدهور
فيها الوضع، نتيجة فهم الشخصية البدوية، بأنها تميل للعنف والجنوح بطبيعتها. في
حين توضح تجربة قرية القصر، وغيرها من القرى في الداخلة. أن البدو، مثلهم مثل
غيرهم من البشر، يجنحون للحياة الهادئة المستقرة، طالما توافرت لديهم أسباب
الاستقرار. وأنهم حين يجدون من يتعامل معهم بإحترام، وإخوة، فإنهم يعاملونه بنفس
الطريقة. وحينها، لا يكون الإختلاف سبباً للشقاق والتنابذ، بقدر ما يكون داعياً
للتكامل، بين أساليب مختلفة للحياة.
أعتقد أن الاستقرار والأمن والوقرة أحد الأسباب التي تساعد على الهدوء النفسي، وربما كان الاستقرار وبساطة الحياة التي يتمتع بها أهل الداخلة سببا من أسباب سماحتهم وسلامهم. والله أعلم.
ردحذفمن أكثر مقالاتك تأثيراً! ثقافة التعايش و الحق فى الحياة موجودة فى فطرتهم و قاموا فيها و يجنون ثمارها وقت الحاجة و وقت الراحة. هنيئاً لك المعايشة و هنيئاً لنا الاستمتاع بما تكتبه. بالتوفيق
ردحذف