الثلاثاء، 19 نوفمبر 2013

7- رحلة حول مصر بالدراجة- الفرافرة


دخلت الفرافرة وأخذت أنظر حولي مندهشاً. كانت قد مضت على زيارتي السابقة لهذا المكان ثمانية عشر عاماً، وكان من الطبيعي أن تكون هناك أشياء كثيرة قد تغيرت خلال كل هذه السنوات. لكن كل ما خطر على بالي وأنا أقترب من المنطقة المركزية التي تشمل السوق، متخطياً أطراف الفرافرة من جهة الواحات البحرية، هو سؤال واحد لا غير: أين الواحة؟!!

كنت قد زرت الفرافرة في زيارة خاطفة عام 1996، لكن الفرافرة التي رأيتها حينذاك، ليس لها أي علاقة بما أشاهده فيها الآن. فأكاد لا أجد احداً من السكان الأصليين، وبينما كان الطابع الصحراوي للبلدة هو السائد في ذلك الوقت، لم أكد أجد له أثراً حين دخلتها بدراجتي هذه المرة.

كانت الفرافرة حينذاك صغيرة للغاية، كما كانت مباني البلدة مبنية بالشكل التقليدي، ومتراصة بشكل جميل. كان هناك وافدون من سائر محافظات مصر، يعملون في الزراعة ويستصلحون الأراضي المحيطة بالفرافرة. لكن كان بامكانك أيضاً رؤية أهل الواحة الاصليون، والتعامل معهم. متلمساً الطابع الأصيل الذي تنضح به معاملاتهم. باختصار؛ كانت الواحة في ذلك الوقت... واحة.

حين زرتها منذ سنوات بعيدة؛ كانت هناك قهوة أمامها كومة من الرمال، اضطررت أنا وصديقي الذي كان بصحبتي في ذلك الوقت لقضاء ما يقرب من الـ 24 ساعة الكاملة فوقها انتظاراً لأن يتم تحميل المكروباص للتحرك باتجاه الداخلة.كدنا نتجمد من البرد يومها، فقد كنا في يناير، لولا أن ظهر أحد أهالي الواحة ودعانا للمبيت في منزله. كان بيته، كسائر البيوت المحيطة به، مبنياً من المواد الخام الموجودة بالبيئة المحيطة. وكانت لديه غرفة منفصلة عن سائر المنزل، مخصصة للضيوف (مضيفة). اليوم، لم تعد هذه القهوة تقف متفردة كما كانت، بل أصبحت وسط سوق كامل، ولم يعد بيت هذا الرجل الكريم موجوداً من الأساس، كما لم يعد لسائر البيوت المحيطة به، والمشابهه له، وجود. فإما قد أصبح مكانها محلات في السوق، أو قد تحولت إلى بيوت أخرى، لكنها مبنية بالطوب الأحمر، وليس لها أي علاقة بالطراز المعماري الأصلي للبلدة. عرفت أن حتى الفتيات لم يعدن يرغبن في الزواج في أحد البيوت التقليدية، حيث لا يرغبن في التعرض للتراب والشمس. وصرن يشترطن السكن في شقة بالواحة. مع ملاحظة أن تكلفة بناء بيت تقليدي هي أرخص بكثير من البيوت المبنية بالطوب الأحمر والأسمنت

 دخلت السوق لأجده ملئ بمحلات الطعام وخدمات المحمول، وغيرها. معظم الباعة ليسوا من سكان الواحة الأصليين، وهناك مزيج ثقافي يجعلك لا تدرك أين انت بالضبط، فلا أنت في الصعيد، ولا الدلتا، ولا في الواحات. كان عدد سكان الفرافرة قليل جداً حتى ستينيات القرن الماضي، حيث تسببت الهجرات المتوالية في زيادة عدد السكان بشكل أخل بالتوازن بين الثقافة الأصلية، والثقافات الواردة. حتى أن احد سكان الواحة الأصليين أخبرني بأن نسبتهم إلى الوافدين قد أصبحت واحد إلى عشرة.

ذهبت لأزور البلدة القديمة وقصر الفرافرة، وجدتها قد تحولت إلى أطلال خربة، مساحتها محدودة للغاية. توجهت لزيارة بئر قديمة قريبة من هناك، فوجدت أخيراً ما يذكرني بأنني في واحة، فالبئر محاطة بحدائق في غاية الجمال، بها بعض البيوت القديمة التي ما زالت تحتفظ بطابعها المعماري التقليدي، أبوابها خشبية عتيقة، والنخيل من حولك في كل مكان. لكن يبو أن البئر لم تعد مستخدمة.

وعلى مسافة عدة كيلومترات من السوق، توجد وسط بعض الأراضي المزروعة عين للمياة الساخنة، تعرف باسم "بير6"، اسمتعت بالسباحة فيها لبعض الوقت. وشربت كوباً من الشاي مع رجل وصل من المنصورة منذ سبعة سنوات، وفي جيبه خمسون قرشاً فقط. حكى لي عن رحلة كفاحه وعمله جاهداً حتى تمكن من شراء أرض ليزرعها بجوار هذه العين. ثم لاحظ أن بإمكانه الاستفادة من موقعه بجوار عين المياه الساخنة، فصار يبيع المشروبات للسائحين، وتوسع في أعماله، وجنى الكثير من الأموال خلال الأربعة سنوات الأولى. لكن عدم وجود سياحة خلال السنوات الثلاثة الماضية أثر على دخله بشكل أساسي. هو يفكر الآن في إعادة الاهتمام بزراعة أرضه، بوصفها المصدر الأصلي لدخله. وأعتقد أننا في مصر، بشكل عام، بحاجة إلى أن نتخطى أزمة السياحة التي نواجهها، ونخلص إلى نفس النتيجة التي وصل اليها هذا الرجل. وذلك عن طريق عدم الاعتماد على السياحة بالكامل، والتركيز عوضاً عن ذلك على التنمية الزراعية والصناعية، بما يمكننا من تحقيق درجة أعلى من الإكتفاء الذاتي. وساعتها؛ حين تعود السياحة مرة أخرى، وستعود بإذن الله، سنكون أكثر استعداداً للاستفادة منها، وتطويرها. وفي حديث مع أحد السكان الوافدين على الواحة، أخبرني أن سعر الفدان هنا في حدود عشرة ألاف جنيه.وهو سعر معقول جداً، مقارنة بسعر الفدان في الوادي والدلتا.

شئ واحد لم يتغير في الفرافرة، ما زال كما هو لم تغيره السنوات. تغير ما حوله، لكنه وقف شاهداً على التغيير الذي حدث في الواحة، إنه متحف بدر.

بدر عبد المغني فنان من الفرافرة، ولد فيها عام 1958، وأحب الفن من صغره. أقام متحفاً في الفرافرة لأعماله التي يستخدم فيها الخامات الطبيعية البيئية. كان يحلم بأن تظل واحته بعيدة عن تيار التحضر، وفقاً لتعبيره، حتى لا يتغير شكل الواحة، وأسلوب الحياة فيها، وفولكلورها الشعبي. وقد أخبرني أن إحساسه بالواحة كان هو ما دفعه لبناء هذا "البيت".

يشعر بدر بالحزن لأن لم يتمكن من تغيير الشئ الوحيد الذي كان يسبب له القلق، والمتمثل في التوسع الرأسي في الصحراء عن طريق بناء مباني خرسانية. يصفها بأنها لا تتناسب مع جو الواحة، وبأن شكلها سئ.
لكن من ناحية أخرى هو يشعر بالارتياح لأن سكان الواحة الأصليين ما زالوا مرتبطين ببعض عاداتهم الأصلية. إذ يرى أن الروابط الأسرية مع الأهل والأقارب ما زالت قوية. كما يتضامن الجميع معاً في الأفراح والأحزان. ويحكي عن إحدى العادات السائدة، والتي يجتمع فيها كل أفراد الأسرة على وليمة يقيمها احدهم، ثم يقومون بجمع مبلغ محدد من كل فرد منهم، ويهدونه لهذا الشخص. وتسمى هذه العادة "جمعية العيلة". كما تجتمع الأسر في العيد على "الفتة".

. وتقيم الطرق الصوفية حلقة ذكر في العيد، ولعدة مرات كل أسبوع. وهناك طريقتان صوفيتان في الواحة، هما الخليلية والبكرية. كما توجد عدة أضرحة ، كضريح الشيخ مرزوق، والشيخ دخيل، وشيخ ثالث لم أتذكر اسمه. ويزور الناس هذه الأضرحة لقراءة الفاتحة لصاحب المقام.

وبدر سعيد بأن رامي، ابنه، مهتم بالفن، وبالعمل معه. وهو يرى أن حل ما طرأ على الواحة من تغيير، هو حب الشباب الصغير من ابنائها لها، مما يجعلهم يحافظون على ما تتمتع به من تراث.
شكرت الرجل وابنه على الجلسة اللطيفة معهم في المتحف، وخرجت متأملاً في هذا المكان، الذي كان يقف وحيداً منذ ثمانية عشر عاماً، وأصبح الآن محاطاً بالبيوت والمحلات والمقاهي. أتساءل كيف سأجد الواحة، إذا ما زرتها مرة أخرى بعد عدة سنوات.

لم تكن الواحة هي الشئ الوحيد الذي لم أجده كما كان، بعد زيارتي الأولى له. فقد حدث لي نفس الشئ مع السوق!

زرت السوق في ليلتي الأولى التي وصلت فيها للفرافرة، كان صاخباً، ومليئاً بكثير من الناس. سرت فيه بدراجتي أشاهد ما حولي، اشتريت بعض احتياجاتي، وذهبت لأبيت في الفندق. وحين عدت للسوق في اليوم التالي، لم أجد المحلات، كانت مغلقة.

في البداية تصورت أن هذا هو يوم الراحة بالسوق، لكنني وجدت عدد من المحلات المفتوحة، لم يكن عددهم يزيد عن أصابع اليد الواحدة. سألتهم عن باقي المحلات، فعرفت منهم أن هناك لجنة شاملة من وزارة التموين، مرت على الواحتين الخارجة والداخلة في الأيام السابقة، ووصلت إلى الفرافرة اليوم، وقد سببت حالة من الرعب لدى الناس، بحيث أغلق الجميع تقريباً محلاتهم، سواء كانت أوراقهم سليمة، أو كانوا مخالفين. ظننت أن هذا الأمر ينتهى في اليوم التالي، لكنني قضيت أربعة ليالي في الواحة، وعلى وشك مغادرتها، وما زالت معظم المحال مغلقة. ومن حسن حظي أنني تمكنت من شراء احتياجاتي من الطعام والشراب، التي أحتاجها معي للسفر إلى الداخلة من بقال كان مفتوحاً، يقوم أصحابه ببيع الماء واللبن والمعلبات والبسكوت للناس، وهم يشعرون بقلق شديد، وكأنهم يبيعون ممنوعات، بينما تصاحبهم دعوات المشترين لهم بالسلامة من كل أذى!

وجدت هذا الوضع غير مقبول بأي حال من الأحوال. فلو كان كل هؤلاء من المخالفين، فلماذا تركتهم الحكومة طوال هذه الفترة؟  وما هي الفائدة من لجنة تظل هنا عدة أيام، فيغلق الناس السوق الوحيد بالبلدة، هرباً منها، ثم يعيدون فتح محلاتهم المخالفة، لو كانت فعلاً مخالفة، بمجرد رحيل اللجنة؟ ثم أننا لو افترضنا أن معظمهم مخالفين ويستحقون أن يتم اغلاق محلاتهم، فما هو البديل الذي قدمته الحكومة للناس من ناحية تيسير إجراءات إصدار التراخيص، بحيث يمكن لسكان الواحة شراء طعامهم واحتياجاتهم من محلات مرخصة من قِبل الحكومة؟

كان أحد المحالات القليلة التي ظلت مفتوحة في السوق دكان للحلاقة. لا يمكنك أن تصفه بأنه حلاق، فهو بحد اقصى "مزين" أو حلاق صحة من الذين يمكنك مشاهدتهم في الأفلام العربية القديمة، الأبيض والأسود. كنت أفكر في حلاقة ذقني، لكنني لم أجد هذا الاختيار مناسباً على الاطلاق.

وجدت "دكان" أخر للحلاقة بجوار الفندق الذي أسكن به. بدا أفضل قليلاً من الدكان الأول. لكن نظرة سريعة للحلاق وهو يقف أمام محله في وسط الشارع، بشعره شبه الأشعث، وذقنه غير المحلوقة. ماسكاً الموسى بيده، وهو يلوح به متحدثاً بصوت عالي إلى شخص يقف بعيداً عنه، كانت كفيلة بأن أصرف النظر عن حلاقة ذقني تماماً.


قضيت عدة أيام في الفرافرة. والآن، أستعد للانطلاق بدراجتي إلى الواحات الداخلة.

هناك 3 تعليقات:

  1. ما شاء الله لا قوة الا بالله ... ربنا يستر طريقك ... طب هو انت حابب تطلع لوحدك ولا مافيش حد عايز يطلع الطلعه ديه ... بس عارف بلدنا حلوة ... روح يا شيخ ربنا يبعد عنك طلاب السكك ... :))))

    ردحذف
  2. إن شاء الله عند عودتك أعتقد أن كثيرا من الأفكار ستتدفق، وأنك ستكتب المزيد والمزيد عن تواصلك مع الناس، ومع الطبيعة ومع الآثار. وفقك الله

    ردحذف