السبت، 31 ديسمبر 2016

15- الطريق من واحة الخارجة إلى الأقصر

(ديسمبر 2013)

تبلغ المسافة بين الخارجة والأقصر نحو 350 كم. في البداية، يتجه الطريق جنوباً نحو بلدة باريس، التي تبعد 90 كم عن مدينة الخارجة. وقبل الوصول اليها بنحو 15 كم، ينحرف باتجاه الشمال الغربي، مخترقاً الصحراء الغربية، بطول 275 كم، حتى مدينة الأقصر.

تحركت بدراجتي من الخارجة، على الطريق المؤدي إلى "باريس". أمر على قرى تحمل أسماء بلاد وعواصم عربية، كصنعاء، والكويت.وبعد نحو 55 كم من الخارجة، وبينما أعبر قرية تسمى "فلسطين"، ظهر كلب أمامي على الطريق. نزلت من على الدراجة،. تحركت بهدوء باتجاه الكلب، لكن ظهرت على جانبي الطريق مجموعة أخرى من الكلاب بدأت تتجمع كلها، متجهة نحوي، فأخذت اصيح بهم. في نفس الوقت، كان هناك مجموعة من الصبية يلعبون على مسافة 300 متر من الطريق. لفتت نظرهم الدراجة، فبدأوا في التوجه نحوي بدافع الفضول. سألوني عن سبب عدم ركوبي الدراجة، فشرحت لهم أنني قد لاحظت، عن طريق التجربة، أن حركة البدال التي تتحرك العجلة من خلالها، تستفز الكلاب للغاية، وتدفعها لمطاردة راكب الدراجة. وأن أفضل حل حين لا تكون هناك فرصة للهروب، هو التوقف والسير بهدوء، حتى يتم تجاوز منطقة سيطرة الكلاب بالكامل. أصر الصبية على مصاحبتي حتى ركوبي للعجلة مرة أخرى، وقررت أن أستفيد من هذه الدقائق المعدودة، وأتعرف على جزء من حياتهم في هذه القرية. عرفت منهم أن هناك مدرسة ابتدائية، واعدادية في كل قرية. أما بالنسبة للمدارس الثانوية، فينبغي على طلابها الاستيقاظ في الرابعة فجراً، كي يتمكنوا من ركوب الميكروباص، حتى مدينة الخارجة. وعلى الرغم من اشفاقي الشديد على هؤلاء الطلاب الذين ينبغي عليهم قطع 55 كم كل يوم للذهاب إلى المدرسة، مثلها اياباً، لكن لفت نظري أن هؤلاء الصبية، ينظرون لهذا الأمر باعتباره شيئاً عادياً.

كان اتجاه الهواء في صالحي، فكنت أسير بمتوسط سرعة 25 كم، تصل إلى 30 كم، مع بذل القليل من الجهد. قطعت 75 كم بسلاسة، من الظهر، حتى الساعة الرابعة. حتى وصلت إل كمين شرطة، عند قرية "بغداد"، وهو المكان الذي يتفرع الطريق من عنده، متجهاً إلى الاقصر. أستفدت من اتجاه الهواء، لكنني كنت أعلم أن اتجاهات الريح ستتغير بمجرد تحركي بعد هذا الكمين في اليوم التالي. مما سيجعلني أقود الدراجة وفي وجهي رياح معاكسة، أو جانبية. لكنني لم أكن أتخيل أن الأمر سيكون بالقسوة التي واجهتها في الايام التالية.

في الخارجة، حذرني القاصي والداني، من خطورة طريق الخارجة- الاقصر، نظراً وجود قطاع طرق، يقومون "بتثبيت" المارة به. وعدم وجود الكثير من السيارات العابرة عليه. وللحق، فسمعة هذا الطريق سيئة،ليس في الخارجة وحدها، لكن أيضاً في سائر الواحات، وذلك بداية من الواحات البحرية، التي تعد أقرب الواحات للقاهرة. توقفت عند كمين الشرطة، لم يطلبوا رؤية بطاقتي، بل لم يسألونني أي شئ من الاساس. بدا عليهم الارتباك حين رأوني بالدراجة، لم أفهم السبب وقتها، لكنني فهمته بعد عدة أيام، قبل نهاية الطريق.

في أبريل 2010، كنت قد قطعت المسافة من القاهرة لأسوان، عن طريق الغردقة وسفاجة، مع إثنين من الأصدقاء. في ذلك الوقت، كانت تعاملات الشرطة مع الغالبية العظمى من المواطنين مصدر قلق لهم. ومع ذلك، فقد كانت معظم أكمنة الشرطة تستقبلنا بشكل جيد، وترحب بنا. وفي رحلتي هذه التي بدأتها وحدي في 1 نوفمبر 2013، كانت تعاملات الشرطة معي على الطريق، في عمومها، جيدة للغاية. ولو كنت قد ابديت رغبتي في المبيت بالقرب من أي منها، لكان أغلبهم رحبوا بذلك. لكنني حين سألت هذا الكمين عن امكانية المبيت في هذا المكان، أخذوا ينظرون لبعضهم البعض، في ارتباك، ثم طلب أحدهم مني رؤية البطاقة.

اتصلوا بقيادتهم، ليستأذنوهم في أن أقضي ليلتي، في خيمتي، بجوار الكمين. وبعد أخذ ورد، أخبروني بأنني يمكنني قضاء الليل في "نادي الهجن والفروسية"، الموجود أمام الكمين، وذلك بعد أن سجلوا بيانات بطاقتي. اخبروني أن النادي تابع للمحافظة، وبالتالي هو غير مملوك لأي فرد بعينه، وانه طالما اصطحبني أحد أفراد الشرطة لداخل النادي، فلا توجد أي مشكلة في المبيت هناك. أرسلوا معي أحد العساكر إلى النادي، والذي تركني في مكان مفتوح هناك، لأقضي فيه الليل، فبدأت في إعداد أمتعتي. بعد قليل، عاد العسكري، وطلب مني بطاقتي كي يسجلوا بياناتها. ولما أخبرته بأنهم قد سجلوها بالفعل، إعتذر، واخبرني بأنهم لم يكونوا قد فعلوا ذلك.

بعد قليل، حضر عريف شرطة، معه جهاز للكشف عن المعادن، كان يتحدث بود ولطف، لكنه أخبرني أن الضباط قد أرسلوه للتأكد من عدم وجود أي شئ مخالف بحوزتي. وأستأذنني في أن يمر بجهازه فوق أمتعتي. وبطبيعة الحال، أصدر الجهاز صوتاً يدل على وجود معادن في كافة الأمتعة. أبدى الرجل تعجبه من ذلك، وأبديت أنا تعجبي من تعجبه، وشرحت له  أنه من الطبيعي أن يظهر الجهاز وجود معادن في الأمتعة، لأن الأمتعة والشنط نفسها يدخل في تصنيعها معادن. طلب مني بأدب شديد أن يفتش أمتعتي، لم امانع مطلقاً. لكنه ما أن بدأ في ذلك، حتى بدا عليه عدم الفهم، فقد كانت المرة الأولى له، التي يشاهد فيها امتعة ومستلزمات شخص مسافر بالدراجة. اقترحت عليه أن يسالني عما يبحث عنه، كي اساعده. سألني إذا ما كان معي اي ممنوعات، أجبته، مثل ماذا؟ أخبرني أنه قد حصل على تدريب فرقة مفرقعات، ولذلك فقد أرسله الضباط للتأكد من عدم وجود متفجرات بحوزتي! لم أكن بحاجة لكي أجيبه عن هذا السؤال. أبدى أسفه، ثم سألني إذا ما كان معي أسلحة، أجبته بالنفي، فهز رأسه مصدقاً على كلامي. وبعد قليل، انتهى هذا الحوار الهزلي.  واقترح علي عريف الشرطة أن أدخل إحدى الحجرات الخالية تماماً، والتي فتحها لي بنفسه، كي أحتمي من البرد.
بدا على الرجل الرغبة في الكلام. حكى لي أنه يعمل في الشرطة منذ أربعة أو خمسة سنوات. لكنه استقال قبل ثورة 25 يناير، بثلاثة شهور، نظراً لتدني مرتبه. ولم يعد للشرطة سوى بعد حوالي العام من استقالته منها، بعد أن زاد مرتبه ليصبح 2000 جنيه. استمر في الحديث لبعض الوقت. ثم تركني لأستريح.

استيقظت في اليوم التالي، وبينما أجهز أمتعتي للرحيل، وجدت شخصاً يدفع باب الحجرة، مستغرباً من وجودي. وحين اخبرته أن الضباط في كمين الشرطة هم من وجهوا لي الدعوة لقضاء الليل هنا، بدا عليه الاستغراب اكثر. أوضح أنه موظف بالمحافظة، وأن الشرطة ليس لها أي علاقة، أو سيطرة من أي نوع على النادي، وبالتالي كان عليهم أن يستاذنوا المسئولين به. أصر على توضيح أن وجه اعتراضه ليس له علاقة بي، على الاطلاق. وانه "يشيلني فوق دماغه"، لكنه معترض على تصرف أفراد الكمين. أوضحت له أنهم ربما بدافع تيسير الأمر علي، قد تصرفوا بعشم مع النادي. وقال هو لي أنني لست بحاجة لأن اشغل بالي بهذا الامر، فهو شأنهم معاً.

وهو يحدثني، لحق به بعض زملائه. عرفت منهم أنهم جميعاً عربان من قبائل "الشرارات" و "بِلِي". أصروا على أن أشرب معهم كوباً من الشاي، قبل ان أنطلق إلى الأقصر. أخبروني أن أمامي كيلومترات قليلة على الطريق، قبل أن تنقطع تغطية كافة شبكات التليفونات المحمولة. هاتفت والدتي، وطلبت منها، أن تخبر زوجتي ايضاً، أنه قد تمر عدة أيام، قبل أن أتمكن من التواصل معهم، عبر المحمول.

كان على أن اقطع 275 كم، حتى أصل إلى مدينة الأقصر. سرت بالدراجة، مخترقاً الصحراء، عبر طريق قلما تمر به سيارة. كان الهواء يهب، عكسياً وبشدة. وفي وقت لاحق، تحسن الوضع. ولم يعد الهواء يهب، بتلك القسوة، في مواجهتي. اقتربت من كمين الشرطة ونقطة الاسعاف الكيلو 55. وجدت سيارة نص نقل خالية من الحمولة تقف بجواري. أطل السائق برأسه، وسألني عن وجهتي. ولما عرف أنني ذاهب إلى "الاقصر"، عرض علي بكرم بالغ، لأكثر من مرة، أن أضع دراجتي فو سيارته، واذهب معه للأقصر. شكرته بلطف، وأوضحت له بحسم، انني لست بحاجة إلى ذلك، وأنني سأكمل طريقي بالدراجة.

وصلت إلى الكمين، فرحب بي الشرطي بالإنجليزية. ولما أخبرته أنني مصري، تعجب جداً. واخبرني أن الكمين السابق، خاطبه وأخبره ان هناك رجلاً إنجليزياً في الطريق إليه بالدراجة! وقد زاد اندهاشه حين إتطلع على بطاقتي، فوجدني مصرياً. أستأذنته في المبيت بنقطة الاسعاف، لم يمانع، لكنه طلب من، بأدب جم، لكن بتحفظ، أن يحتفظ ببطاقتي معه، حتى اغادر في الصباح.

تركت بطاقتي معه، وتوجهت لنقطة الاسعاف، وبينما أتحدث مع المسعف والسائق، فوجئت بالشرطي قادم، وأعاد لي بطاقتي، موضحاً أن هناك رجل انجليزي في طريقه للنقطة فعلاً، وأنه على وشك الوصول بدراجته. تركت أمتعتي في نقطة الاسعاف. وخرجت لأستمتع بنقاء الجو في الخارج.

بعد قليل، وجدت رجلاً، أجنبي الهيئة والملامح، يقترب بدراجته، اقتربت من الطريق، فمر بي وهو يقول "السلام عليكم"، وهو مبتسم. رددت عليه السلام، ثم قلت له، بالإنجليزية:"إذن أنا لست الدراج الوحيد على هذا الطريق". عرف أنني مصري، وعرفت منه أنه انجايزي، واسمه "أد". حكى لي انه قد قطع المسافة من انجلترا، لتركيا بدراجته. ثم شحن العجلة وجاء بها إلى مصر عن طريق الطائرة. ليبدأ رحلته بالدراجة من القاهرة، ليصل، إلى جنوب افريقيا، خلال ستة شهور. ثم يعود بعدها إلى صديقته الكولومبية، التي تنتظره. تبادلنا البريد الألكتروني، وسلمنا على بعضنا بمودة، سلام دراج على دراج، تقابلا على الطريق، في جوف الصحراء، ثم افترقا. اختار هو ان يسير بدراجته، حتى قبل الغروب مباشرة، ليكسب المزيد من الوقت. وفضلت أنا المبيت في الاسعاف. وبالليل، عرفت من أحد سائقي الاسعاف، أنه قد شاهد "أد"، يخيم بعد خمس او ستة كيلومترات من نقطة السعاف. أشفقت عليه من قضاء الليل في الخيمة، في جو شديد البرودة، ورياح عاصفة، وقلت لنفسي: ليته بقى.

استيقظت في الصباح، وانطلقت على الطريق، لأقابل "نقب"، بعد تحركي مباشرة. والنقب هو "المطلع" الممتد لمسافة كبيرة. ففهمت لماذا لم يتمكن "أد" من قطع مسافة كبيرة، حين غادرنا بالأمس. كانت الرياح جانبية، وشديدة، والبرودة قارصة. وكانت الرياح أحياناً ما تحمل الأتربة والرمال، لترتطم بي انا والدراجة. كنت اشعر بالبرد الشديد، وكان على أن الثم وجهي، حتى أحميه من ارتطام الهواء البارد به. كنت في الصحراء، غير مدرك أن ما أواجهه الآن، ما هو إلا موجه البرد الشديد التي هبت على مصر والشرق الأوسط في ذلك الوقت. باغتتني وأنا في الصحراء، لكنني بفضل لله ورحمته، تمكنت من الاستمرار.

كنت اتقدم بصعوبة بالغة، من فرط قوة الرياح الجانبية المُعطلة، لكن في النهاية، وصلت لنقطة اسعاف الكيلو 110. وهناك، رحبوا بي بشدة، وأبدوا قدراً كبيراً من الاهتمام برحلتي. اندمجت معهم بسرعة، لدرجة أنه حين وصلت اليهم سيارة نقل المياه. التي تأتي لهم بالماء، مرة كل اسبوعين، أو شهر، طلب مني المسعف مساعدته في ملئ الخزان فوق سطح نقطة الاسعاف، ، حيث يتطلب الأمر وجود أكثر من شخص. وبينما كنت استخدم السلم الخشبي للصعود على السطح، لاحظت أنه بحاجة للاصلاح. فتطوعت للمساعدة في اصلاحه.

تحركت بالدراجة في الصباح، كان الهواء جيداً، سرت قليلاً، لأجد اتجاهات الهواء تهب لصالحي، والطريق يبدو مريحاً بشكل غير مألوف، لدرجة أنني قطعت عدة كيلومترات، بسرعة تتراوح من 25 إلى 28 كم في الساعة، وأحياناً أكثر من ذلك، بدون حاجة لبذل الكثير من الجهد في التبديل. أعطاني ذلك الفرصة كي أريح قدمي من التبديل المكثف. أحببت احساس الحركة السريعة، بدون مجهود كبير. لكن الغريب أن استمتاعي بذلك لم يستمر سوى لبضعة دقائق. إذ بدأت أشعر بالملل وإفتقاد الشعور بالتبديل على الطريق. فقد بدا الأمر أسهل من اللازم. أدركت مدى حبى لركوب الدراجة، في تلك اللحظات.

وبطبيعة الحال، لم يستمر الهواء في صفي كثيراً. إذ عاد لطبيعته، وعدت أنا للتبديل بشكل طبيعي. بعد قليل، توقفت سيارة مارة بجواري، قادمة من ناحية الأقصر. ونزل منها رجل قدم لي نفسه أنه من هيئة تنشيط السياحة، ولما هممت بأن أعرفه بنفسي، فوجئت بأنه يعرفني، ويعرف اسمي. حكى لي أنه التقى، في الأقصر، بالعائلة الفرنسية التي تسافر باستخدام الدراجات، والتي كنت قد التقيتها على طريق القاهرة-الواحات البحرية، ثم تقرقت بنا السبل. عرفت منه أن الفرنسيين قد حكوا له عني، كما عرفت منه أنهم قد تعرضوا لبعض المصاعب وساءت حالتهم الصحية وهم على الطريق، مما دفع الشرطة لإصطحابهم بالسيارة حتى المستشفى بالأقصر. وفهمت في تلك اللحظة سر ارتباك رجال الشرطة حين رأوني مقبلاً عليهم بالدراجة، في أول الطريق. فقد إنتابهم القلق من تكرار ما حدث لتلك الأسرة الفرنسية، مع دراجين آخرين.

كان الرجل ودوداً للغاية، سألني إذا ما كان هناك أي مساعدة يمكنه تقديمها لي، سألته عن فندق جيد سعره مناسب في الأقصر. اقترح علي واحداً أو أثنين. شكرته على المساعدة.  طلب مني أن يلتقط صورة معي، فعلنا ذلك، ثم انطلق في طريقه، متمنياً أن تتكلل رحلتي بالنجاح.

وصت كمين النقطة 170، لأصادف ترحيباً كبيراً من رجال الشرطة. أخبرتهم برغبتي في قضاء الليل بنقطة الاسعاف، فاصطحبني أحدهم حتى نقطة الاسعاف، بعد أن أصروا على أن الحق بهم لتناول طعام الغذاء ، بعد أن اترك أمتعتي في نقطة الاسعاف. ترددت كثيراً في قبول دعوة الغذاء، فلدي فكرة شديدة السلبية عن رجال الشرطة، إلا من رحم ربي. إذ لم تعجبني ممارساتهم، سواء قبل الثورة، أو أثنائها، أو حتى بعدها. لكنني كنت قد قررت منذ بداية الرحله أن أتعامل مع الناس بدون احكام مسبقة، وأن أتعامل مع كل انسان بحسب تصرفاته الشخصية، وليس وفقاً لانتماءاته، أي كانت هذه الإنتماءات. ولذلك، فقد قررت قبول دعوتهم، بعد أن استشعرت صدقهم في الترحيب بي.

تناولنا طعام الغذاء، وكان معنا المسعف الوحيد الموجود بنقطة الاسعاف، ثم جلسنا لشرب الشاي. ولما كانوا كلهم صعايدة، فقد كانت معظم أحاديثهم والقصص التي يتبادلونها تدور حول الحياة في الصعيد. حكايات عن القتل والإجرام، وعزت حنفي، وغيره من البلطجية. وجدت نفسي أنتقل لعالم غريب يختلط فيه الاجرام بالشرف، والموت بالحياة. سمعت قصصاً عمن قتل خاله، فأصبح هناك ثأراً بين الأسرتين، حتى تم الصلح بينهم. وعن من فقد حياته في مشاجرة بسبب كيلو أرز. قصصاً عن حياتهم أيام الخدمة بالجيش، وعملهم الحالي بالشرطة. كانوا يحكون حكاياتهم ويعلقون بأن الصعيد عالم قائم بذاته، وبالتأكيد هو كذلك.

وجدت نفسي جالسأ وسطهم، أشاهد مباراة في لعبة الدومينو "ماتش ضومينه"، بين شرطي يرتدي ملابساً مدنية، ومسعفاً من الاقصر يرتدي جاكت الاسعاف طلباً للدفء في هذا الجو القارس. كان المشهد سينمائياً لأبعد الحدود. أخذت أفكر في هذه المصادفة البديعة، في هذه الرحلة التي جعلتني أجلس هنا، في هذا المكان الصغير العامر بعدد قليل جداً من البشر. والمحاط بصحراء واسعة، لا يوجد بها بشر آخرين، على مدى عشرات الكيلومترات الأخرى. في مسار حياتي الطبيعية، لم يكن هناك ما يمكنه أن يجمعني بهؤلاء الناس. لكن ها أنا ذا أجلس معهم. لو كنت مسافراً على هذا الطريق بأي وسيلة انتقال أخرى، سيارة من أي نوع، أتوبيس، أو حتى موتوسيكل، لما كان هناك ما يدعوني لقضاء الليل في هذا المكان. بل وربما لم أكن لأنتبه لوجوده من الأصل. لكن سفري بالدراجة أعطاني الفرصة كي أتواجد في هذه اللحظة، في هذا المكان، لتتقاطع حياتي وتتداخل مع هؤلاء الناس، بحيث يبدو كل شئ آخر بعيداً للغاية، ويبدو وجودي في هذا المكان هو الواقع. ليتغير هذا المشهد في اليوم التالي. وأجد نفسي وحدي على الطريق، مرة أخرى.

تحركت في الصباح، منطلقاً على الطريق. وبعد فترة، تحولت الطبيعة الصحراوية من حولي إلى جبلية، لأصل بعد نحو 35 كم إلى كافيتيريا "الهو"، وقد حصلت على هذا الاسم، نظراً لوجودها وسط "الهِو"، أي منطقة خالية تماماً، وغير آهلة بالسكان.

حين التقيت بالرجل الذي يعمل في هيئة تنشيط السياحة، في اليوم السابق، على الطريق، سألته عن كافيتيريا "الهِو". وعلى الرغم من أنه قد حذرني من مستوى النظافة بها، لكنني لم أتخيل أن يصل الأمر لهذا الحد.  ولن أذكر ما وجدته في طعامي، حرصاً على الذوق العام. لكن المكان يصلح لأن يكون اختبار المرحلة الأخيرة، من مسابقة قياس قوة التحمل، للتغلب على مشاعر القرف، أثناء تناول الطعام. مع الأخذ في الاعتبار، أنني لا ينتابني الشعور بالقرف ببساطة.

تناولت طعامي وغادرت الكافتريا. وبينما كنت أهم بالانطلاق، وجدت رجلاً معه بعض الصبية، يسألونني عن العجلة. ولما عرفوا أنني قادم من الخارجة ومتجه للأقصر، أبدوا تعجبهم الشديد من عدم مصادفتي لأي قطاع طرق، وقالوا لي باندهاش "وما حدش ثبتك على الطريق؟!"

واصلت طريقي، وبعد عدة كيلومترات، عادت الحياة لتليفوني المحمول، وذلك بعد عدة أيام من الانقطاع التام عن العالم الخارجي. كان أول ما فعلته هو التحدث لزوجتي ووالدتي كي أطمئنهم. فوجدتهم قد قضوا الأيام الماضية، في حالة من القلق البالغ على. كانوا يشعرون بالبرد القارس الناتج عن الموجة الباردة التي عمت مصر من أدناها إلى أقصاها، فيتسألون إذا ما كنت على قيد الحياة أم قضيت نحبي في برودة الصحراء. مررت على بعض المزارع، طاردتني فيها مجموعة من الكلاب، تمكنت بفضل الله من الافلات منها. سرت حتى وصلت لمفترق طرق، أصبحت اسير بعده وعلى يميني ترعة صغيرة. صادفت كمين شرطة. بدا عليهم الاستنكار الشديد، لعبوري طريق الخارجة-الأقصر بالدراجة، وقالوا لي "إحمد ربنا إنك ما طلعش عليك بلطجية!".

ذهبت الشمس لحال سبيلها، ولكنني أكملت طريقي وسط القرى والفلاحين، لأصل إلى مدينة الأقصر ليلاً، بعد أن قطعت في ذلك اليوم 100 كم.