الأربعاء، 18 ديسمبر 2013

14- رحلة حول مصر بالدراجة- واحة الخارجة

كنت على مشارف واحة الخارجة، حين دق جرس تليفوني المحمول. عادة ما أغلقه وأنا على طريق السفر بالدراجة، حتى لا ينفذ شحن البطارية. لكنني كنت قد فتحته، نظراً لكوني قد اوشكت على الوصول إلى الواحة. أجبت الهاتف، فوجدت الصوت على الجانب الآخر يعرفني بنفسه، بأنه مدير العلاقات العامة، ورئيس لجنة الصحافة والإعلام، بجمعية أصدقاء السائح. أخبرني أنه يرغب في إرسال من يلتقي بي عند مدخل الخارجة، للترحيب بي، وتسجيل لقاء معي بالفيديو. استجبت لهذه الدعوة، وقمت بتسجيل لقاء سريع عن رحلتي. تحدثت  بعدها قليلاً مع المصور، وفهمت منه انه يعمل لحساب بعض المواقع الإخبارية الأخرى. أوضحت له أنني لا ارحب بالحديث عن رحلتي لدى اي موقع له إنتماءات وميول سياسية، حيث أن هدفي من هذه الرحلة هو إعادة اكتشاف الحضارة المصرية. وكررت ترحيبي بالتصوير مع جمعية اصدقاء السائح، دون غيرها.
 اصطحبني المصور، لمقابلة رئيس لجنة الصحافة والإعلام بالجمعية. وقد استقبلني الرجل بترحاب شديد، وأبدى إهتماماً بالغاً بالرحلة. تجاذبنا أطراف الحديث، وعرفت منه أنه يقوم بالعديد من الأنشطة الصحفية. فأوضحت له ما سبق لي توضيحه للمصور، وأبدى هو تفهمه لذلك. وقد رافقني، بكاميرته، في الايام التالية، خلال زيارتي لمعبد هيبس، ومقابر البجوات.
يقع معبد هيبس على مسافة قصيرة جداً، من واحة الخارجة، باتجاه الشمال. وهو يحمل نفس الإسم القديم للواحة (هبت – هيبس). إذ أن "هيبس" هو المصطلح اليوناني، للكلمة المصرية القديمة "هبت"، والتي تعني "المحراث". وقد بدأ بناء المعبد فى عهد الأسرة "26"، و استكمل فى عصر الملك الفارسى داريوس الأول (الأسرة 27). ودخلت عليه أضافات أخرى بعد ذلك. والمعبد به مناظر ونقوش عديدة، لها أهمية كبيرة، في فهم الديانة المصرية القديمة. وبعض أجزائه تخضع للترميم منذ عدة سنوات.
وتقع جبانة "البجوات" المسيحية، بالقرب من معبد "هيبس". وقد شهد القرن الثاني الميلادي بداية المقابر المسيحية في "البجوات"، والتي أستمرت حتى القرن السابع. وتتمتع هذه الجبانة التاريخية، بأسلوب معماري مميز. حيث بنيت المنطقة على شكل "أقبية"، أو "قبوات" وتنطق "جبوات". ثم تم تبديل حروفها، لتصبح "بجوات". وجدران مقابرها مزدانة برسومات دينية مسيحية قيمة.  ويُعد مزاري "الخروج" و"السلام" من المزارات الهامة جدا فيهاً. ويصور مزار "الخروج" قصة خروج بني إسرائيل بقيادة النبى موسى من مصر، كما يصور نوح والسفينة، وآدم وحواء، ويونس والحوت، وغيرهم. في حين يضم مزار "السلام" رسومات، على الطراز البيزنطي، لعدد من الأنبياء والشخصيات الدينية، مثل آدم وابراهيم واسحاق ودانيال عليهم السلام. بالإضافة إلى سارة، والسيدة مريم العذراء، و(EIRHNH) رمز السلام. ويعود هذا المزار إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي.
وتشمل جبانة "البجوات" 236 كنيسة/ مقبرة. عثر  الحارس على آثار لثعبان في إحداها، ونحن معاً. لم نشاهد الثعبان نفسه، لكن الحارس عرف من آثاره أنها "الحية المقرنة"، المعروفة باسم "الطريشة". وهي واحدة من أخطر أنواع الآفاعي، التي تعيش على الاراضي المصرية.

وواحة الخارجة، هي آخر الواحات المصرية الخمس، من جهة الجنوب. لذلك كان المصريون القدماء، يطلقون عليها، هي وواحة الداخلة معاً، الواحة الجنوبية. ويعود تاريخ السكان الأوائل للواحة، إلى العصر الحجري القديم. كما تعود الإتصالات بين سكان الواحة القدامى، ووادي النيل، إلى عصر ما قبل الأسرات، أي من 4000، حتى 3200 سنة قبل الميلاد. وأستمر ذلك في عهد الدولة القديمة، والوسطى. وقد كانت الواحة مركزاً للإنتاج الزراعي في عهد الدولة الوسطى، وبداية الدولة الحديثة. والواحة بها العديد من المعابد، والمراكز الحضارية، التي تنتمي لعصور تاريخية مختلفة.
وتتميز الخارجة بالنخيل والبلح. وقد ذكر لي أحد السكان أنه لو تم جلب فسيلة بلح مزروع في الواحة، ثم تم زراعتها في مكان آخر، بعيداً عن الواحات، فستكون الثمار الناتجة عن ذلك مختلفة تماماً، إلا إذا ما تم زراعتها في المدينة المنورة. ولا اعلم مدى دقة هذا الكلام علمياً. لكنني أنقله كما سمعته، والعهدة على الراوي.
وتُعد الخارجة أكثر مدن الوادي الجديد تطوراً، فهي عاصمة المحافظة، وتتوافر بها كافة الخدمات الأساسية. وعلى الرغم من ذلك، تتسم الحياة فيها، بشكل عام، بالهدوء والسلاسة، مقارنة بغيرها من المدن المصرية. وقد عرفت من بعض الأهالي أن البث التلفزيوني قد وصل للخارجة سنة 1980، وكان ذلك لمدة ثلاثة ساعات فقط، في المساء. وظلت مدة الارسال تزيد تدريجياً، حتى وصلت إلى فترة الارسال الكاملة، بحلول منتصف الثمانينات.
وقد حظيت بفرصة لقاء الحاجة أم أحمد، وهي سيدة تنتمي للجيل الذي عاش في الواحة، قبل ان تشهد كل هذا التحديث والمدنية. حكت لي عن بعض العادات القديمة في الخارجة. ففي رمضان، كانت الناس تُخرج الطبلية امام بيوتها، وتضع عليها الطعام و"الممبار". وفي ليلة 27 رمضان، يضعون الرز والفتة في القدح، وينطقونها "الجَدَح". ثم يضيفون إليها نسائل من اللحم، وليس قطعاً كبيرة، نظراً لضيق ذات اليد. وكانوا يستخدمون الحطب، حيث كان الأغنياء فقط، هم من يتمكنون من شراء "وابور جاز". وتبتسم الحاجة "أم أحمد" وهي تتذكر أنهم كانوا يقومون بوضع بلحة في فمهم، للتحلية، أثناء شرب الشاي. وذلك كبديل عن "السكر"، الذي لم يكن متوافراً. وتعلق على ذلك بأن "الناس زمان كان فيها خير وبركة".
وهي تذكر أن العريس، لو كان غنياً، كان يحضر لعروسه جلبابين، أو ثلاثة. في حين كانت والدة العروس تقوم بعمل لحاف من القطن، لدى المنجد، لتعطيه لها. وترتدي العروس، في الفرح، فستاناً أبيض، مزين بأشكال الورود الملونة، كما تضع "شالاً" من القطيفة الحمراء. وتجلس النساء في الفرح، ليغنين، وهن يضربن على "الطار"، وهو يشبه الدف، ومصنوع من جلد الماعز.
تسرح "أم أحمد" بعينيها، وهي تتذكر أغنية كانت تُغنى في الأفراح، وتدندن بكلمات الأغنية:
مـحلى ليالـي الفـرح
أملا وأكيل بالجدح
لامـلا وأكـيـل وأزيـده
وإن جاني حبيبي لأغنيله
وأنا جابلته على بحر رشيـد
لابس سكروته وبالطو جديد
وقـلتلـه فـي الـعمـر تزيـد
ضحك وقال...قلبي إنشرح
والسكروتة هي الجلباب الملون. تركت الحاجة "أم أحمد" مع ذكرياتها، وعدت إلى الفندق الذي أقيم فيه بالخارجة، لأستريح، استعداداً ليوم آخر.
تعود أصول الكثير من عائلات الواحة إلى اسنا ومنفلوط، وغيرها. كما توجد بعض العائلات التي تسري بها دماء تركية. ومثلها مثل واحة الداخلة، يعيش البدو في الخارجة جنباً إلى جنب مع الفلاحين. تتداخل عوالمهم في بعض الاحيان، وتنفصل هذه العوالم في معظم الوقت. وبدو الخارجة ينتسبون إلى أكثر من قبيلة. ولكل قبيلة منها روابطها، وجذورها الممتدة في أماكن أخرى، سواء داخل مصر، أو في دول عربية أخرى.
تنحدر قبيلة "بِلِي" من بني قضاعة، في تبوك، وشمال المملكة العربية السعودية. وهم أبناء عمومة لقبيلة "جهينة". ويوجد أكبر تجمع لأبناء القبيلة في محافظة القليوبية، كما يوجد لها أفرع في قنا والإسماعيلية، بالإضافة إلى الوادي الجديد. وفي خمسينيات القرن العشرين، جاء مجموعات من أبناء القبيلة من قنا، ليستقروا في واحة الخارجة. لكن ذلك التاريخ لم يكن بداية علاقتهم بالخارجة، فقد كانوا يمرون عليها من ناحية "نقب دوش"، قبل تلك الفترة. إذ كانوا يتجهون إلى منطقة قرب حدود السودان، ليحضروا حجراً يسمى "العطرون"، يتم العثور عليه هناك في صورة عروق كالملح، يقومون بتكسيرها، وتحميلها فوق الجمال، ثم العودة بها إلى وادي النيل. وكان بعض الفلاحين من سكان الواحات يمارسون نفس هذه التجارة، فقد كانت مجزية. ومع نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، لحقت قبيلة "الشرارات" بقبيلة "بِلِي"، وأستوطنت مجموعات من أبنائها الواحة.
أما قبيلة "العوازم"، فهي وإن كان بعض أبنائها قد سبقوا غيرهم، واستقروا بالخارجة قبلهم، لكن عدد أبناء هذه القبيلة في الخارجة محدود للغاية، وذلك على الرغم من كثرتهم العددية في أماكن أخرى، كـ"اسنا" مثلاً، كما يوجد لهم تواجد ملحوظ في اسوان وسوهاج، وأماكن أخرى. وتنحدر قبيلتي "الشرارات" و"العوازم"، من قبيلة "عبس" العربية.
وفي حالة حدوث مشاكل بين قبيلتين، يفصل فيها قضاه عرفيين من القبيلتين، أو من قبيلة ثالثة. لكن في كافة الأحوال، تعد العادات والتقاليد والأحكام، التي تنظم حياة أبناء هذه القبائل متشابهة، بدرجة تقترب من التطابق. وتشترك معهم في ذلك كل القبائل البدوية، التي ترجع جذورها إلى الجزيرة العربية والمشرق العربي. ولا يوجد اختلاف في العادات والتقاليد، إلا مع القبائل التي تعود أصولها إلى المغرب العربي، بدايةً من ليبيا، وإمتداداً إلى الشمال الأفريقي كله.
أما لو حدثت مشاكل بين أفراد من البدو والفلاحين، فيتم حلها بالطرق الرسمية عن طريق اللجوء للشرطة والمحاكم، وذلك نظراً لعدم وجود أي خلفية مشتركة تتعلق بالعادات والتقاليد، تجمع بين الطرفين، لذلك لا يكون هناك ثمة حل، سوى اللجوء "للحكومة".
ويحكي لي الشيخ أحمد الفلاح، وهو بدوي من قبيلة"بِلِي"، أن العلاقة بين البدو وسكان الخارجة الأصليين من الفلاحين، هي علاقة قائمة على الود، والاحترام المتبادل. لكن نظراً للاختلاف الكامل في أساليب الحياة بين الجانبين، فالتعامل بينهما يكون محدوداً، وفي حدود قضاء المصالح المشتركة. لكن ذلك لا يعني العزلة بأي حال من الأحوال، فأبناء البدو والفلاحين في الواحة، يذهبون إلى المدارس معاً، سواء في المركز أو المدينة. وتنمو بينهم الصداقات، التي ترعاها الزمالة، وصحبة الدراسة، وتستمر معهم بعد ذلك.
وتُعد قبيلة "بِلِي"، أكثر القبائل البدوية في محافظة الوادي الجديد، إهتماماً بالتعليم. وهي تحظى بأكبر عدد من الحاصلين على مؤهلات عليا، بين أبناء القبائل. يليها في ذلك"الرشايدة، الذين يتركزون في واحة "الداخلة"، ثم "الشرارات".
أما بالنسبة لتعليم البنات، فمن الطبيعي أن تكمل كل فتاة تعليمها الأساسي، حتى الصف الثالث الإعدادي. ثم بعد ذلك يتفاوت الامر من بيت لآخر. فبعض البيوت قد تكتفي بحصول ابنتها على هذا القدر من التعليم، والبعض الآخر يسمح لها بإستكمال تعليمها. وتوجد فتيات كثيرات حاصلات على مؤهل عالي. لكن بشكل عام، لا تعمل بنات الاسر البدوية، مهما كان قدر التعليم الذي حصلن عليه. فالهدف من التعليم والمؤهل العالي عندهم، ليس التأهيل للعمل، وإنما تأهيل المرأة لتربية أبنائها. حيث تكون اكثر نفعاً لابنائها، وهي متعلمة.
أستمتعت كثيراً، وتعلمت الكثير، من زيارة الواحات البحرية، والفرافرة، والداخلة، والخارجة. وتشكل كل من هذه الواحات عالماً قائماً بذاته، لكن يظل بينها الكثير من العناصر المشتركة. وقد منحتني الدراجة، فرصة التعرف على هذه الأماكن، عن قرب، ربما بأكثر مما كانت ستتيحه لي أي وسيلة سفر وتنقل أخرى.

 والآن أستعد لمغادرة الخارجة، منطلقاً بدراجتي... إلى الاقصر.

الأحد، 8 ديسمبر 2013

13- رحلة حول مصر بالدراجة- الطريق إلى واحة الخارجة


كانت الساعة قد بلغت الواحدة والنصف ظهراً، حين تحركت من موط، في واحة الداخلة، متجهاً إلى الخارجة، التي تقع على مسافة 190 كم منها. سرت بدراجتي، متخطياً بعض القرى، ليصبح الطريق من حولي صحراوياً. الهواء يهب بشدة، وفي الاتجاه المعاكس. مما يجعل التقدم بالدراجة، بكل ما معي من حمولة، بطيئاً، وبالغ الصعوبة. قمت بتخفيض نقلات السرعة للتروس الأمامية للدراجة، إلى نقلة رقم واحد. وهي نقلة لا تتيح السير بأكثر من 15 كم في الساعة، لكنها تخفف الضغط على الساقين قليلاً. ولم يكن بإمكاني السير على سرعة تزيد عن ذلك، على أي حال، في مواجهة هذه الرياح الشديدة، حتى لو كنت أسير على نقلة أسرع من ذلك.

وبينما كنت أسير بدراجتي منهكاً، وشارد الذهن قليلاً، والصحراء تحيطني من كل جانب. فإذا بي أجد اللون الأخضر، الخاص بالزراعات، يظهر على جانبي الطريق. وفي نفس اللحظة، فوجئت بمجموعة من الكلاب تهاجمني. بدأت في تحريك البدال بأقصى سرعة ممكنة، لكنها لم تكن كافية. ففي مواجهة الرياح، وبهذه السرعة المنخفضة، كانت الكلاب تعدو بجواري، وهي تنبح بشراسة. قمت بنقل الترس الأمامي من "1" إلى "2"، ثم "3"، لكن ذلك لم يجد نفعاً على الإطلاق. فالرياح ظلت كما هي، تحول بيني وبين زيادة السرعة. أخذت أصرخ في الكلاب بصوت مرتفع، لكنني فهمت وقتها معنى المثل العربي القديم" ذهب ادراج الرياح". فهذا هو بالضبط ما حدث لصوتي. فلا صوت صراخي وصل إلى الكلاب، بسبب الريح، ولا كان من الممكن أن أسبقهم أبداً، في مثل هذه الظروف. وقبل أن تقترب الكلاب مني أكثر من ذلك؛ بدأت أنتبه لصوت سيارة تتحرك من ورائي على يمين الطريق. نظرت بطرف عيني وأنا مستمر في محاولة الهرب من الكلاب والصراخ فيها، لأجد من في السيارة يعملون على إبعاد الكلاب عني. وما بين إستمراري في الحركة، وبين ما يفعله راكبي السيارة؛ توقفت الكلاب عن مطاردتي. وبعد أن تأكدت إنني قد إبتعدت عنهم بما يكفي؛ توقفت لإلتقاط أنفاسي.

دخلت قرية بلاط، وقد بقى على المغرب نحو ساعة. وتوجهت لمشاهدة مدينة بلاط الإسلامية. وهي مدينة أثرية مشيدة بالطوب اللبن، ترجع إلى العهد العثماني. وتتكون من حارات ودروب وازقة، وفقاً لنظام المدن الإسلامية. ومنازلها مبنية من طابقين.

أنهيت زيارتي للمدينة القديمة قي بلاط، قبل المغرب بقليل. لم يكن هناك وقت كافٍ للخروج من نطاق القرية، والاستعداد للتخييم في مكان مناسب. قررت المبيت داخل قرية بلاط نفسها. وقضيت ليلتي داخل أحد المساجد.

 وفي الصباح، توجهت إلى بلاط الفرعونية، التي تقع على طريق متفرع من الطريق الرئيسي. وهي تتكون من مجموعة من المصاطب (المقابر)، يطلق عليها قلاع الضبة، وتعود إلى الأسرة السادسة، (2460-2200) قبل الميلاد. وتقع مقبرة "خنتيكا"، الذي كان يشغل منصب حاكم الواحة، في عهد الملك "بيبي الثاني"،  في مركز هذه الجبانة.

بعد نحو خمسة كيلومترات، تقع قرية "البشندي". ويتطلب الوصول إليها، هي أيضاً، السير لعدة كيلومترات، على طريق متفرع من الطريق الرئيسي. ويحكي أهل القرية أن أصل هذه التسمية يعود إلى شيخ صالح، جاء من الهند، فكانوا يطلقون عليه "الباشا هندي". وكان يجلس في مسجد القرية، وهو مسجد صغير، كي يقوم بتدريس العلم. وحين توفاه الله، دفنه أهل القرية حيث كان يجلس، بالمسجد. وأصبحت القرية كلها تُعرف باسمه، بعد أن تم تحريف الإسم، إلى "بشندي". وبجوار ضريح الشيخ البشندي، تقع مقبرة كيتانوس الرومانية، التي تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد. وهي مزينة برسوم فرعونية.

خرجت من القرية، وسرت على الطريق الفرعي، حتى عدت إلى الطريق الرئيسي، المؤدي للخارجة. وبعد قليل، مررت بقرية تنيدة. وتخطيتها، لأصبح محاطاً بالصحراء، وأمر على منطقة بها تشكيلات حجرية جميلة. ثم اصل إلى كمين شرطة تنيدة، الذي شهد حادثاً مروعاً في الأسبوع الماضي، نتج عن إنقلاب سيارة أجرة، على أثر إنفجار أطارها. أخبرني أفراد الشرطة في الكمين، أن الرياح لا تكون بهذه الشدة طوال الوقت، كما أنها لا تهب في هذا الإتجاه المعاكس باستمرار، وأنها قد تنقلب لصالحي في أي وقت، لكن ذلك لم يحدث، خلال سفري على الطريق. فقد ظلت الرياح تهب معاكسة، مما أنهك قواي تماماً.

مررت بنقطة اسعاف الكيلو 121، فقررت المبيت عندها. قابلت أحد المسعفين، الذي أخبرني بأنه عليه مراجعة زميله، كي يؤكد لي، أنه لا توجد مشكلة، في أن أقضي ليلتي في نقطة الاسعاف. جلست على الرصيف خارج النقطة، متأملاً في هدوء المكان. بعد قليل خرج شاب بشوش في منتصف العشرينات، موجهاً كلامه إلي، بصوت مرتفع، ووجه ينضح بابتسامة عريضة دافئة، قائلاً: "هاللو". أخبرته بانني مصري، فأتسعت إبتسامته أكثر.

أبو اليزيد اخصائي خدمات اسعاف، يقضي 13 يوم متواصلة، في هذا المكان، هو وزميله، الذي قابلته في البداية، والذي يعمل كسائق، على سيارة الاسعاف. وهما يحصلان على اجازة لباقي الشهر، ويتناوبان العمل خلال اليوم، مع زميلين آخرين، يقودان سيارة اسعاف اخرى. لكنهما كانا يجريان لها صيانة في ذلك اليوم. فلم يكن في نقطة الاسعاف، سوى أبو اليزيد، وزميله.

جلسنا نتسامر أثناء تناول العشاء. عرفت من أبو اليزيد أن عائلته قد جاءت اصلاً من الصعيد، لتعيش في الخارجة، وذلك لظروف عمل والده. وقد قضى هو عمره في الواحات، ولا يعرف لنفسه بلداً سواها. ونظراً لأنه لم يجد عملاً في تخصصه، كمدرس للغة العربية. فقد قرر العمل في مجال الاسعاف، وأحبه. سألته إذا ما كان قد تمت تسميته على اسم جده. فحكي لي أنه قد ولد في نفس اليوم الذي توفي فيه مأذون قريتهم بالصعيد. ولما كان والده يحب ذلك الرجل، فقد منح اسمه، لطفله الوليد.

يحكي أبو اليزيد أنه قد تمر عليهم عدة شهور، بدون أن يتم استدعائهم لأي حالة. كما قد يتم استدعائهم لأكثر من حالة، خلال فترة قصيرة. ففي عملهم، لا توجد قاعدة ثابتة. وهم مسئولون عن تغطية طريق الخارجة-الداخلة باكمله، إلا أن هناك نقطة اسعاف اخرى، في النصف الثاني من الطريق، تشاركهم المسئولية.

حل الليل، وخرجت لأتأمل في السماء والنجوم. كان الجو منعشاً للغاية، والسماء مرصعة بالنجوم. لا يوجد في هذا الفضاء الكوني الفسيح، سوى نقطة الاسعاف، ونحن الثلاثة الموجودين بها. جلست وحدي، أنظر للسماء والصحراء. أشعر كأننا ضيوف عابرين على هذا المكان. إذ يبدو الكون شاسعاً، ونحن نقطة في غاية الضآلة بالنسبة إليه، لكننا لسنا كذلك بالنسبة لأنفسنا. أستمتع بضوء السيارات التي تعبر من آن إلى آخر، وهو ينعكس على الجبال المحيطة بالنقطة، فيبدو وكانه عرض للصوت والضوء، يستمر للحظات، ثم يعود الظلام دامساً مرة اخرى، لا يهتك ستره سوى الضوء المنبعث من نقطة الاسعاف. يسقط شعوري بالزمن، فارى بعيني خيالي القوافل العابرة في هذا المكان، منذ مئات السنين. مسافرون عرب، يرتدون الجلباب والعقال العربي، يسيرون بالجِمال ليلاً، حتى يتفادوا قيظ النهار بالغ الحرارة. يسيرون لأميال واميال، مطرقي الرؤوس، ومن آن إلى أخر، يتطلعون إلى السماء، ليعرفوا طريقهم من النجوم. أفكر في من مروا بهذا الطريق، ومن جابوا هذه الصحراء، أو صحارٍ أخرى تشبهها. أولئك الذين جذبتهم الصحراء. أتخيل الرهبان المصريين الفارين من بطش الرومان، إلى أحضان الصحاري والجبال. أفكر في النساك الهنود في كهوف جبال الهمالايا، وعلى قممها، والرهبان البوذيين في صحاري أسيا الجافة. اتخيل أنبياء بني اسرائيل وهم يجوبون الصحاري، ومعهم تلاميذهم، والمتصوفة المسلمين المرابطين على قمم الجبال، طلباً للوصلة بالله. اتخيلهم جميعاً، بعيني خيالي، وهم يتجهون للخالق، جل وعلى. يعرفونه باسماء مختلفة، لكنهم جميعاً، في أعماق قلوبهم، يعرفون انهم يتجهون لنفس الإله.

  كنت مرهقاً للغاية، لكنني كنت أغالب النوم، قدر استطاعتي. فالمشهد، واحساسي به، كان فوق قدرة الكلمات على الوصف. أردت أن أوقف الزمن، كيلا يطلع النهار. هذه ليلة يصعب علي ان أنساها، ما ابدع هذا الكون، تبارك الخالق.

أستيقظت مبكراً، وودعت أبو اليزيد، لأنطلق في طريقي. وعند الظهر، مررت بقرية مستصلحة اسمها الزيات. سرت على طريق قصير غير ممهد، كي أعثر على كافتريا لتناول الغذاء. سألت مجموعة صغيرة من الأطفال، فدلوني على قهوة، إذ لم يكن هناك أي مطعم.  ظهرت مجموعة أخرى من اللأطفال، تلتها آخرى، وآخرى، لأنتبه انني قد صادفت موعد خروج طلبة المدارس. بدأ الأطفال يتزايدون وهم يتحركون نحوي بحماس شديد ، ويصيحون: "هاللو". أوضحت لهم أنني مصري. بدأ تلاميذ أكبر سناً في الظهور، تلاهم آخرون، أكبر، يبدو عليهم أنهم في المرحلة الثانوية.  بدا الموقف هزلياً، لكن سخيفاُ. وفي خلال دقائق، أصبح هناك ما لا يقل عن ثلاثون أو اربعون تلميذاً، من أعمار متفاوتة، يحيطون بالعجلة، مبدين إهتماماً شديداً بها. لم يُفلح توجيههم برفق في ابعادههم عنها. فما كان مني سوى أن أخرجت عصا صغيرة، ولوحت بها في الهواء، فأنفضوا من حولي. تحركت نحو الطريق الرئيسي بسرعة، وتوجهت نحو القهوة، لأشرب الشاي، وأشتري بعض البسكويت. ثم إنطلقت مرة اخرى على الطريق.

سرت، ومن حولي الصحراء، حتى وصلت إلى منطقة فوسفات أبو طرطور. كان متبقياً على المغرب نحو الساعة. قطعت عدة كيلومترات، عابراً مدناً سكنية، تبدو مهجورة من بعيد، ومنشآت عديدة تابعة لمشروع فوسفات أبو طرطور. وتوقفت عند بوابة المشروع، لأستاذن الأمن في التخييم، بجوارهم. رحبوا بي للغاية، واخبروني أنه لا توجد حاجة للتخييم أصلا، وأن بأمكاني قضاء الليل في حجرة الأمن. في المساء حضر العديد من العاملين بالشروع، من مختلف التخصصات. أخذوا يسألونني عن رحلتي باهتمام، واستغراب. كما حكوا لي عن المنجم، وعن عملهم به.

المنجم تابع لوزارة البترول، وهو يقع على هضبة ممتدة لمساحة شاسعة، يصل ارتفاعها إلى نحو 150 متراً. ويحتوي على أنفاق يبلغ اجمالي طولها 20 كم. وقد سمعت حكايات رهيبة عن ظروف العمل في المنجم، حتى التسعينيات. حيث كانوا يستخرجون الفوسفات من تحت الأرض. وكانت درجة الحرارة في الأنفاق تصل، وفقاً لروايتهم، لـ 65درجة مئوية. وعلى الرغم من وجود "مراوح" لتحريك الهواء. لكنه كان مع ذلك، يظل ساخناً. وهناك من وافتهم المنية في تلك الأنفاق، أو تعرضت أرجلهم للبتر، نتيجة حدوث انهيارات فوق رؤوسهم. ووصل الأمر، في السبعينيات، أن ظل الضحايا مدفونين في الأنفاق، لاستحالة استخراج جثامينهم. لكن الوضع قد تحسن، وفقاً لكلامهم، في الألفية الجديدة.

عرفت منهم أن هذه المنطقة كانت تحت سطح البحر، منذ ملايين السنين، قبل أن ينحسر البحر عنها. ولذلك فالفوسفات الموجود بها، يتشكل من رواسب بحرية. وقد حكوا لي أنهم يعثرون باستمرار على أسنان حيتان أثناء العمل. ويتفاوت لون السن بحسب لون الفوسفات المحيط به. أبديت إهتمامي بمعرفة المزيد عن ذلك. فما كان منهم إلا أن ارسلو في طلب أسنان حوت، وقاموا، مشكورين بإهدائي إثنتين منها. ولا يمكنني ان اعرف إذا ما كانت هذه الأسنان حوت فعلاً، أم لنوع أخر من الأسماك. فالواحدة منها في حجم عقلتي اصبع، أو ثلاثة. ولا يمكن تصور أن أسنان الحوت صغيرة بهذا الشكل. إلا أنها على أية حال "تحفة طبيعية"، لأن وجودها في هذه الصحراء يؤكد أنها تعود لحقب زمنية بالغة القدم. وسأعمل لدى عودتي للقاهرة، بإذن الله، على الرجوع للخبراء، للتحقق من هذه الأسنان.

أجمل ما في السفر بالدراجة، أنه يتيح لك التعرف على الناس عن قرب. فقد قضيت الليلة السابقة، في نقطة اسعاف، متعرفاً على العاملين بها، وعلى حياتهم اليومية هناك. ثم قضيت الليلة التالية، عند البوابة في منجم فوسفات، لأستمع إلى حكايات عن الحياة والعمل في المنجم. لا يتيح لك السفر باي وسيلة مواصلات سريعة ذلك. لكن الدراجة تجعلك حقاً، جزءاً من الطريق الذي تسير عليه، وتتيح لك درجة عالية جداً من التواصل، مع الموجودين، على ضفتي ذلك الطريق.


 استيقظت مبكراً، وأنطلقت، قاطعاً الـ 42 كم المتبقية، لأصل إلى واحة الخارجة...عند الظهيرة.

الاثنين، 2 ديسمبر 2013

12- رحلة حول مصر بالدراجة- الداخلة- موط

 غادرت القصر، متجهاً إلى موط، المركز الرئيسي لواحة الداخلة، والتي تبعد عنها بنحو 35 كم. لم أسلك الطريق الرئيسي القادم من الفرافرة. وإنما اخترت طريق أخر يسير بين القرى والحقول، ويبعد عن موط بنفس المسافة، تقريباً.

سرت بدراجتي على الطريق، ومن حولي مزارع وأراضي خضراء، بها تجمعات بديعة للمياه، وأسوار للمزارع والبيوت تتسم بالبساطة والجمال. وأشاهد الصحراء والتلال الصخرية، من وراء الشريط الأخضر الزاهي، المحيط بالطريق. ومن آن إلى آخر، يمر رجل على موتوسيكل، وأحياناً ما قد تجد زوجته خلفه. فالموتوسيكل وسيلة مواصلات أساسية هنا.

أستوقف رجلاً على موتوسيكل، لأسأله عن الطريق، فينظر إلي بشك وتعجب، لا يصدق أنني مصري. يظل يستفسر عما جاء بي إلى هنا، ويسألني عن أسمي ومهنتي، وأنا أرد عليه مبتسماً. يتعجب هو من وجودي، وأتعجب أنا من تعجبه.

على جانب الطريق، ألمح سيدة مسنة، لو قيل لي أنها تناهز المائة، لصدقت بسهولة. ظهرها محني، وكأنها تركع للصلاة. وجهها أقرب للارض منه للسماء.
كانت تسير على هذا الوضع، وهي تجر "شنطة" على الأرض. توقفت وتحركت نحوها قائلاً: "أشيل معاكي يا خالة؟"..لم أستوضح ما تقوله، لكن بدا انها تشكرني، ثم سألتني عمن أكون، فأجبتها: "لأ..أنا مش من هنا.. أنا غريب". وجهت وجهها نحوي، وقالت: "ما شاكلكش مش من هنا...شكلك من أهل البلد يا ولدي". ولما كان شكلي بالدراجة، وما عليها من حمولة، مرتدياً الخوذة، لا يمكن أن يوحي بأنني من اهل البلد، بأي حال من الأحوال، ناهيك عن لهجتي القاهرية. فقد إعتبرت تشبيهها لي بأنني من أهل البلد، تكريماً لي. تركت العجلة مستندة إلى شجرة. وحملت عنها الحقيبة للأمتار القليلة الباقية، حتى باب دارها. ثم تركتها مصحوباً بكلمات لم أسمعها بوضوح، لكن بدا واضحاً، من طريقتها، أنها تدعو لي. شعرت بيومي يمتلئ "بالبركة" للقاء هذه السيدة. وأكملت طريقي مستبشراً، ومنشرحاً. ما أجمل أن تُمنج الفرصة، وأنت على طريق السفر، كي تساعد غيرك، ولو بشئ بسيط للغاية. كما يقدم لك غيرك يد المساعدة، وأنت على الطريق.

أمر على القرى، واحدة تلو الأخرى. الناس، بشكل عام، ودودون للغاية. أواجه صعوبة في رفض دعوات الشاي وتناول الغذاء المتكررة، من مختلف الناس الذين اقابلهم على الطريق. لكنني أعتذر بلطف، وأستكمل طريقي إلى موط.

أمر على قرية القلمون. بها بحيرة تكونت من مياه الصرف الزراعي، وتُعرف بنفس الاسم. ويقال ان هذا الاسم له جذور فرعونية، ومعناه "عرش آمون". وقد كان بها قرية عربية قديمة، لكن الزمن قد نال منها الآن. والقرية تسكنها عائلة الشهداء، الذين ترجع أصولهم إلى المغرب، والغز، الذين ترجع أصولهم لمدينة غزة، بفلسطين، وغيرهم.

ويحكى أنه منذ زمن بعيد، كانت هناك عصابات مسلحة، تأتي هي أيضاً، من بعيد. كانوا يأتون من "تشاد"، ويقومون بمهاجمة الواحة، ونهب الثمار، وخطف الفتيات الجميلات. ثم يعودون إلى بلادهم، مرة اخرى، بكل هذه الغنائم. فما كان من عائلة "الشهداء" في القلمون، إلا ان قامت باستدراج هؤلاء المجرمين، ونصبت لهم الشباك. فلما سقطوا فيها، إنهالوا عايهم ضرباً، بالجزء السميك من جريد النخيل. ولقنوهم درساً قاسياً. ولكن هذا، لم يكن الدرس الوحيد، الذي لقنوهم أياه.

كانت العصابات التشادية، تأتي من بلادها، حاملين ضِعف كمية المياة، التي يحتاجونها للوصول إلى الواحة. ثم يقومون بدفن الكمية الزائدة، عند منتصف الطريق، بين بلادهم، والداخلة. ويستمرون بما معهم من ماء، حتى يصلوا إلى الواحة، ويمارسوا عادتهم في السلب والنهب. ثم يعودون ادراجهم، حاملين معهم كمية من الماء، تكفي لمنتصف الطريق فقط. ويحصلون على حاجتهم من الماء، لباقي الطريق، من الجرار التي كانوا قد ملأوها بالمياه، وخزنوها في مكان، يحفظونه عن ظهر قلب.

وعلمت عائلة الشهداء بالتكتيك الذي يطبقه التشاديون للتزود بالماء. فانتظروهم حتى هاجموا الواحة مرة أخرى، وانطلقوا هم إلى الصحراء، سائرين على نفس الدرب الذي أتى منه التشاديون. حتى وصلوا إلى وادي، وجدوا فيه ما يقرب من ثلاثمائة بلاص، مليئة بالمياه. فقاموا بتكسيرها كلها. بحيث لم يجد التشاديون أي مخزون من الماء لدى عودتهم، فهلكوا من العطش، بعد أن نفذ، ما كان قد تبقى معهم من ماء. ومازالت الجرار التي تم تكسيرها موجودة، بحالتها، في نفس المكان الذي عثرت عليها فيه عائلة الشهداء. ويعرف منظموا رحلات السفاري هذا المكان باسم "البلاص". وقد حكى لي أحد اهالي الواحة، أن باحثاً المانياً معروفاً هنا، يدعى "كارلو"، أخبره انه قد عثر على الهياكل العظمية الخاصة بهؤلاء التشاديون في إحدى المناطق الصحراوية، على الدرب المؤدي إلى بلدهم.

تخطيت القلمون، حتى وصلت إلى نقطة يتقاطع فيه الطريق الذي سرت فيه بين القرى، مع الطريق الأصلي القادم من الفرافرة. لأصل إلى موط، بعد نحو خمسة كيلومترات.

دخلت موط، فوجدتها مدينة، ككل المدن. ولا أريد أن اظلمها، فقد رأيتها بعد "القصر" مباشرة. ومن يشاهد القصر وسحرها، ويمكث بها لعدة أيام، يكون من الصعب جداً أن يعجبه اي مكان آخر، بسهولة.

موط لا يمكن وصفها بالمكان الهادئ، ففيها حركة مارة، وسيارات. وفيها اسواق وخدمات أساسية جيدة. لكنها بالتأكيد أكثر هدوءاً من القاهرة، وسائر المدن الكبرى في مصر. والوجوه هنا عادية، لا شئ يعيبها، لكنها ليست بالطيبة والسماحة غير العادية، التي لمستها عند الكثيرين في القصر، والقرى الأخرى، على الطريق المؤدي إلى موط.

تمكنت من شحن الـ USB، وشراء أدوية كانت تنقصني، ولم تكن متوافرة في موط نفسها. لكن الصيدلية أحضرتها لي من أسيوط، كما سحبت بعض النقود من ماكينة الـ ATM. باختصار، أخذت موط مني الهدوء، وراحة البال، ودفء المشاعر الإنسانية التلقائية، ولكنها منحتني خدمات أساسية كنت بحاجة إليها. أتساءل بيني وبين نفسي، هل هناك تعارض بين توافر مثل هذه الخدمات، وبين المحافظة على القيم الأصيلة، والترابط الإنساني، في المجتمعات التقليدية؟

وقد لفت نظري، وجود عدد مبالغ فيه، من الصيدليات، التي أحياناً ما تكون شديدة القرب، من بعضها البعض. كما يوجد عدد كبير جداً من محلات الحلاقة، لا يتناسب مع الكثافة العددية للسكان في المدينة.

زرت موط القديمة، فوجدتها مجموعة من الخرائب. يسكن في عدد قليل من بيوتها ، بعض الفقراء، الوافدين من الصعيد. وأحياناً ما يستخدمها بعض من يعملون بالتجارة منهم لتخزين بضاعتهم. شاهدت هذه الأطلال، مع غروب الشمس، وكانت حالة المدينة سيئة، بحيث كنت أسمع صوت الخفافيش وهي تتحرك، داخل أحد البيوت. سألت أحد المارة من أبناء المكان عن مدى خطورتها على البشر. أخبرني بأنها لا تهاجم اليشر أبداً، لكنها، وفقاً، لقوله، تتغذى على دماء الحيوانات، بما فيها البهائم. لا اعرف سبباً علمياً يجعل الخفاش، ينتقي الحيوان دون الإنسان. لكنني أترك تفسير هذا الكلام، إن صح، لأهل الإختصاص.


عرفت بوجود متحف لتراث الواحة، وأن مفتاحه بحوزة بعض الموجودين عند قصر ثقافة الداخلة. توجهت اليهم فأبدوا قدراً كبيراً من الإهتمام. وقاموا بالإتصال بالموظف المختص، الذي أبدى اعتذاره نتيجة حدوث عطل في الباب الوحيد للمتحف، وهو ما يتطلب يومين لإصلاحه. لم استطع الإنتظار أكثر من ذلك، فما زال أمامي الكثير لأشاهده خلال جولتي حول مصر، بالدراجة.

كان أكبر ما استفدته من إقامتي بموط، هو أنني حظيت بفرصة إستكمال ما أكتبه عن الداخلة، بمدنها وطرقها وقراها. والآن، أستعد للرحيل إلى محطتي التالية...واحة الخارجة.