كنت على مشارف واحة الخارجة، حين دق جرس تليفوني
المحمول. عادة ما أغلقه وأنا على طريق السفر بالدراجة، حتى لا ينفذ شحن البطارية.
لكنني كنت قد فتحته، نظراً لكوني قد اوشكت على الوصول إلى الواحة. أجبت الهاتف،
فوجدت الصوت على الجانب الآخر يعرفني بنفسه، بأنه مدير العلاقات العامة، ورئيس
لجنة الصحافة والإعلام، بجمعية أصدقاء السائح. أخبرني أنه يرغب في إرسال من يلتقي
بي عند مدخل الخارجة، للترحيب بي، وتسجيل لقاء معي بالفيديو. استجبت لهذه الدعوة،
وقمت بتسجيل لقاء سريع عن رحلتي. تحدثت بعدها قليلاً مع المصور، وفهمت منه انه يعمل
لحساب بعض المواقع الإخبارية الأخرى. أوضحت له أنني لا ارحب بالحديث عن رحلتي لدى
اي موقع له إنتماءات وميول سياسية، حيث أن هدفي من هذه الرحلة هو إعادة اكتشاف
الحضارة المصرية. وكررت ترحيبي بالتصوير مع جمعية اصدقاء السائح، دون غيرها.
اصطحبني المصور،
لمقابلة رئيس لجنة الصحافة والإعلام بالجمعية. وقد استقبلني الرجل بترحاب شديد، وأبدى
إهتماماً بالغاً بالرحلة. تجاذبنا أطراف الحديث، وعرفت منه أنه يقوم بالعديد من
الأنشطة الصحفية. فأوضحت له ما سبق لي توضيحه للمصور، وأبدى هو تفهمه لذلك. وقد
رافقني، بكاميرته، في الايام التالية، خلال زيارتي لمعبد هيبس، ومقابر البجوات.
يقع معبد هيبس على مسافة قصيرة جداً، من واحة الخارجة،
باتجاه الشمال. وهو يحمل نفس الإسم القديم للواحة (هبت – هيبس). إذ أن
"هيبس" هو المصطلح اليوناني، للكلمة المصرية القديمة "هبت"،
والتي تعني "المحراث". وقد بدأ بناء المعبد فى عهد الأسرة "26"،
و استكمل فى عصر الملك الفارسى داريوس الأول (الأسرة 27). ودخلت عليه أضافات أخرى
بعد ذلك. والمعبد به مناظر ونقوش عديدة، لها أهمية كبيرة، في فهم الديانة المصرية
القديمة. وبعض أجزائه تخضع للترميم منذ عدة سنوات.
وتقع جبانة "البجوات" المسيحية، بالقرب من
معبد "هيبس". وقد شهد القرن الثاني الميلادي بداية المقابر المسيحية في
"البجوات"، والتي أستمرت حتى القرن السابع. وتتمتع هذه الجبانة
التاريخية، بأسلوب معماري مميز. حيث بنيت المنطقة على شكل "أقبية"، أو "قبوات"
وتنطق "جبوات". ثم تم تبديل حروفها، لتصبح "بجوات". وجدران
مقابرها مزدانة برسومات دينية مسيحية قيمة. ويُعد مزاري "الخروج" و"السلام"
من المزارات الهامة جدا فيهاً. ويصور مزار "الخروج" قصة خروج بني إسرائيل
بقيادة النبى موسى من مصر، كما يصور نوح والسفينة، وآدم وحواء، ويونس والحوت، وغيرهم.
في حين يضم مزار "السلام" رسومات، على الطراز البيزنطي، لعدد من الأنبياء
والشخصيات الدينية، مثل آدم وابراهيم واسحاق ودانيال عليهم السلام. بالإضافة إلى سارة،
والسيدة مريم العذراء، و(EIRHNH) رمز السلام. ويعود هذا المزار إلى
القرن الخامس أو السادس الميلادي.
وتشمل جبانة "البجوات" 236 كنيسة/ مقبرة.
عثر الحارس على آثار لثعبان في إحداها،
ونحن معاً. لم نشاهد الثعبان نفسه، لكن الحارس عرف من آثاره أنها "الحية
المقرنة"، المعروفة باسم "الطريشة". وهي واحدة من أخطر أنواع
الآفاعي، التي تعيش على الاراضي المصرية.
وواحة الخارجة، هي آخر الواحات المصرية الخمس، من جهة
الجنوب. لذلك كان المصريون القدماء، يطلقون عليها، هي وواحة الداخلة معاً، الواحة
الجنوبية. ويعود تاريخ السكان الأوائل للواحة، إلى العصر الحجري القديم. كما تعود
الإتصالات بين سكان الواحة القدامى، ووادي النيل، إلى عصر ما قبل الأسرات، أي من
4000، حتى 3200 سنة قبل الميلاد. وأستمر ذلك في عهد الدولة القديمة، والوسطى. وقد
كانت الواحة مركزاً للإنتاج الزراعي في عهد الدولة الوسطى، وبداية الدولة الحديثة.
والواحة بها العديد من المعابد، والمراكز الحضارية، التي تنتمي لعصور تاريخية
مختلفة.
وتتميز الخارجة بالنخيل والبلح. وقد ذكر لي أحد السكان
أنه لو تم جلب فسيلة بلح مزروع في الواحة، ثم تم زراعتها في مكان آخر، بعيداً عن
الواحات، فستكون الثمار الناتجة عن ذلك مختلفة تماماً، إلا إذا ما تم زراعتها في
المدينة المنورة. ولا اعلم مدى دقة هذا الكلام علمياً. لكنني أنقله كما سمعته،
والعهدة على الراوي.
وتُعد الخارجة أكثر مدن الوادي الجديد تطوراً، فهي عاصمة
المحافظة، وتتوافر بها كافة الخدمات الأساسية. وعلى الرغم من ذلك، تتسم الحياة
فيها، بشكل عام، بالهدوء والسلاسة، مقارنة بغيرها من المدن المصرية. وقد عرفت من
بعض الأهالي أن البث التلفزيوني قد وصل للخارجة سنة 1980، وكان ذلك لمدة ثلاثة
ساعات فقط، في المساء. وظلت مدة الارسال تزيد تدريجياً، حتى وصلت إلى فترة الارسال
الكاملة، بحلول منتصف الثمانينات.
وقد حظيت بفرصة لقاء الحاجة أم أحمد، وهي سيدة تنتمي
للجيل الذي عاش في الواحة، قبل ان تشهد كل هذا التحديث والمدنية. حكت لي عن بعض
العادات القديمة في الخارجة. ففي رمضان، كانت الناس تُخرج الطبلية امام بيوتها،
وتضع عليها الطعام و"الممبار". وفي ليلة 27 رمضان، يضعون الرز والفتة في
القدح، وينطقونها "الجَدَح". ثم يضيفون إليها نسائل من اللحم، وليس
قطعاً كبيرة، نظراً لضيق ذات اليد. وكانوا يستخدمون الحطب، حيث كان الأغنياء فقط، هم
من يتمكنون من شراء "وابور جاز". وتبتسم الحاجة "أم أحمد" وهي
تتذكر أنهم كانوا يقومون بوضع بلحة في فمهم، للتحلية، أثناء شرب الشاي. وذلك كبديل
عن "السكر"، الذي لم يكن متوافراً. وتعلق على ذلك بأن "الناس زمان
كان فيها خير وبركة".
وهي تذكر أن العريس، لو كان غنياً، كان يحضر لعروسه
جلبابين، أو ثلاثة. في حين كانت والدة العروس تقوم بعمل لحاف من القطن، لدى
المنجد، لتعطيه لها. وترتدي العروس، في الفرح، فستاناً أبيض، مزين بأشكال الورود
الملونة، كما تضع "شالاً" من القطيفة الحمراء. وتجلس النساء في الفرح،
ليغنين، وهن يضربن على "الطار"، وهو يشبه الدف، ومصنوع من جلد الماعز.
تسرح "أم أحمد" بعينيها، وهي تتذكر أغنية كانت
تُغنى في الأفراح، وتدندن بكلمات الأغنية:
مـحلى ليالـي الفـرح
أملا وأكيل بالجدح
لامـلا وأكـيـل وأزيـده
وإن جاني حبيبي لأغنيله
وأنا جابلته على بحر رشيـد
لابس سكروته وبالطو جديد
وقـلتلـه فـي الـعمـر تزيـد
ضحك وقال...قلبي إنشرح
والسكروتة هي الجلباب الملون. تركت الحاجة "أم
أحمد" مع ذكرياتها، وعدت إلى الفندق الذي أقيم فيه بالخارجة، لأستريح،
استعداداً ليوم آخر.
تعود أصول الكثير من عائلات الواحة إلى اسنا ومنفلوط،
وغيرها. كما توجد بعض العائلات التي تسري بها دماء تركية. ومثلها مثل واحة
الداخلة، يعيش البدو في الخارجة جنباً إلى جنب مع الفلاحين. تتداخل عوالمهم في بعض
الاحيان، وتنفصل هذه العوالم في معظم الوقت. وبدو الخارجة ينتسبون إلى أكثر من
قبيلة. ولكل قبيلة منها روابطها، وجذورها الممتدة في أماكن أخرى، سواء داخل مصر،
أو في دول عربية أخرى.
تنحدر قبيلة "بِلِي" من بني قضاعة، في تبوك،
وشمال المملكة العربية السعودية. وهم أبناء عمومة لقبيلة "جهينة". ويوجد
أكبر تجمع لأبناء القبيلة في محافظة القليوبية، كما يوجد لها أفرع في قنا
والإسماعيلية، بالإضافة إلى الوادي الجديد. وفي خمسينيات القرن العشرين، جاء مجموعات
من أبناء القبيلة من قنا، ليستقروا في واحة الخارجة. لكن ذلك التاريخ لم يكن بداية
علاقتهم بالخارجة، فقد كانوا يمرون عليها من ناحية "نقب دوش"، قبل تلك
الفترة. إذ كانوا يتجهون إلى منطقة قرب حدود السودان، ليحضروا حجراً يسمى
"العطرون"، يتم العثور عليه هناك في صورة عروق كالملح، يقومون بتكسيرها،
وتحميلها فوق الجمال، ثم العودة بها إلى وادي النيل. وكان بعض الفلاحين من سكان
الواحات يمارسون نفس هذه التجارة، فقد كانت مجزية. ومع نهاية الخمسينيات وبداية
الستينيات، لحقت قبيلة "الشرارات" بقبيلة "بِلِي"، وأستوطنت
مجموعات من أبنائها الواحة.
أما قبيلة "العوازم"، فهي وإن كان بعض أبنائها
قد سبقوا غيرهم، واستقروا بالخارجة قبلهم، لكن عدد أبناء هذه القبيلة في الخارجة
محدود للغاية، وذلك على الرغم من كثرتهم العددية في أماكن أخرى،
كـ"اسنا" مثلاً، كما يوجد لهم تواجد ملحوظ في اسوان وسوهاج، وأماكن أخرى.
وتنحدر قبيلتي "الشرارات" و"العوازم"، من قبيلة
"عبس" العربية.
وفي حالة حدوث مشاكل بين قبيلتين، يفصل فيها قضاه عرفيين
من القبيلتين، أو من قبيلة ثالثة. لكن في كافة الأحوال، تعد العادات والتقاليد
والأحكام، التي تنظم حياة أبناء هذه القبائل متشابهة، بدرجة تقترب من التطابق.
وتشترك معهم في ذلك كل القبائل البدوية، التي ترجع جذورها إلى الجزيرة العربية
والمشرق العربي. ولا يوجد اختلاف في العادات والتقاليد، إلا مع القبائل التي تعود
أصولها إلى المغرب العربي، بدايةً من ليبيا، وإمتداداً إلى الشمال الأفريقي كله.
أما لو حدثت مشاكل بين أفراد من البدو والفلاحين، فيتم
حلها بالطرق الرسمية عن طريق اللجوء للشرطة والمحاكم، وذلك نظراً لعدم وجود أي
خلفية مشتركة تتعلق بالعادات والتقاليد، تجمع بين الطرفين، لذلك لا يكون هناك ثمة
حل، سوى اللجوء "للحكومة".
ويحكي لي الشيخ أحمد الفلاح، وهو بدوي من
قبيلة"بِلِي"، أن العلاقة بين البدو وسكان الخارجة الأصليين من
الفلاحين، هي علاقة قائمة على الود، والاحترام المتبادل. لكن نظراً للاختلاف
الكامل في أساليب الحياة بين الجانبين، فالتعامل بينهما يكون محدوداً، وفي حدود
قضاء المصالح المشتركة. لكن ذلك لا يعني العزلة بأي حال من الأحوال، فأبناء البدو والفلاحين
في الواحة، يذهبون إلى المدارس معاً، سواء في المركز أو المدينة. وتنمو بينهم
الصداقات، التي ترعاها الزمالة، وصحبة الدراسة، وتستمر معهم بعد ذلك.
وتُعد قبيلة "بِلِي"، أكثر القبائل البدوية في
محافظة الوادي الجديد، إهتماماً بالتعليم. وهي تحظى بأكبر عدد من الحاصلين على
مؤهلات عليا، بين أبناء القبائل. يليها في ذلك"الرشايدة، الذين يتركزون في
واحة "الداخلة"، ثم "الشرارات".
أما بالنسبة لتعليم البنات، فمن الطبيعي أن تكمل كل فتاة
تعليمها الأساسي، حتى الصف الثالث الإعدادي. ثم بعد ذلك يتفاوت الامر من بيت لآخر.
فبعض البيوت قد تكتفي بحصول ابنتها على هذا القدر من التعليم، والبعض الآخر يسمح
لها بإستكمال تعليمها. وتوجد فتيات كثيرات حاصلات على مؤهل عالي. لكن بشكل عام، لا
تعمل بنات الاسر البدوية، مهما كان قدر التعليم الذي حصلن عليه. فالهدف من التعليم
والمؤهل العالي عندهم، ليس التأهيل للعمل، وإنما تأهيل المرأة لتربية أبنائها. حيث
تكون اكثر نفعاً لابنائها، وهي متعلمة.
أستمتعت كثيراً، وتعلمت الكثير، من زيارة الواحات
البحرية، والفرافرة، والداخلة، والخارجة. وتشكل كل من هذه الواحات عالماً قائماً
بذاته، لكن يظل بينها الكثير من العناصر المشتركة. وقد منحتني الدراجة، فرصة
التعرف على هذه الأماكن، عن قرب، ربما بأكثر مما كانت ستتيحه لي أي وسيلة سفر
وتنقل أخرى.
والآن أستعد
لمغادرة الخارجة، منطلقاً بدراجتي... إلى الاقصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق