الأحد، 8 ديسمبر 2013

13- رحلة حول مصر بالدراجة- الطريق إلى واحة الخارجة


كانت الساعة قد بلغت الواحدة والنصف ظهراً، حين تحركت من موط، في واحة الداخلة، متجهاً إلى الخارجة، التي تقع على مسافة 190 كم منها. سرت بدراجتي، متخطياً بعض القرى، ليصبح الطريق من حولي صحراوياً. الهواء يهب بشدة، وفي الاتجاه المعاكس. مما يجعل التقدم بالدراجة، بكل ما معي من حمولة، بطيئاً، وبالغ الصعوبة. قمت بتخفيض نقلات السرعة للتروس الأمامية للدراجة، إلى نقلة رقم واحد. وهي نقلة لا تتيح السير بأكثر من 15 كم في الساعة، لكنها تخفف الضغط على الساقين قليلاً. ولم يكن بإمكاني السير على سرعة تزيد عن ذلك، على أي حال، في مواجهة هذه الرياح الشديدة، حتى لو كنت أسير على نقلة أسرع من ذلك.

وبينما كنت أسير بدراجتي منهكاً، وشارد الذهن قليلاً، والصحراء تحيطني من كل جانب. فإذا بي أجد اللون الأخضر، الخاص بالزراعات، يظهر على جانبي الطريق. وفي نفس اللحظة، فوجئت بمجموعة من الكلاب تهاجمني. بدأت في تحريك البدال بأقصى سرعة ممكنة، لكنها لم تكن كافية. ففي مواجهة الرياح، وبهذه السرعة المنخفضة، كانت الكلاب تعدو بجواري، وهي تنبح بشراسة. قمت بنقل الترس الأمامي من "1" إلى "2"، ثم "3"، لكن ذلك لم يجد نفعاً على الإطلاق. فالرياح ظلت كما هي، تحول بيني وبين زيادة السرعة. أخذت أصرخ في الكلاب بصوت مرتفع، لكنني فهمت وقتها معنى المثل العربي القديم" ذهب ادراج الرياح". فهذا هو بالضبط ما حدث لصوتي. فلا صوت صراخي وصل إلى الكلاب، بسبب الريح، ولا كان من الممكن أن أسبقهم أبداً، في مثل هذه الظروف. وقبل أن تقترب الكلاب مني أكثر من ذلك؛ بدأت أنتبه لصوت سيارة تتحرك من ورائي على يمين الطريق. نظرت بطرف عيني وأنا مستمر في محاولة الهرب من الكلاب والصراخ فيها، لأجد من في السيارة يعملون على إبعاد الكلاب عني. وما بين إستمراري في الحركة، وبين ما يفعله راكبي السيارة؛ توقفت الكلاب عن مطاردتي. وبعد أن تأكدت إنني قد إبتعدت عنهم بما يكفي؛ توقفت لإلتقاط أنفاسي.

دخلت قرية بلاط، وقد بقى على المغرب نحو ساعة. وتوجهت لمشاهدة مدينة بلاط الإسلامية. وهي مدينة أثرية مشيدة بالطوب اللبن، ترجع إلى العهد العثماني. وتتكون من حارات ودروب وازقة، وفقاً لنظام المدن الإسلامية. ومنازلها مبنية من طابقين.

أنهيت زيارتي للمدينة القديمة قي بلاط، قبل المغرب بقليل. لم يكن هناك وقت كافٍ للخروج من نطاق القرية، والاستعداد للتخييم في مكان مناسب. قررت المبيت داخل قرية بلاط نفسها. وقضيت ليلتي داخل أحد المساجد.

 وفي الصباح، توجهت إلى بلاط الفرعونية، التي تقع على طريق متفرع من الطريق الرئيسي. وهي تتكون من مجموعة من المصاطب (المقابر)، يطلق عليها قلاع الضبة، وتعود إلى الأسرة السادسة، (2460-2200) قبل الميلاد. وتقع مقبرة "خنتيكا"، الذي كان يشغل منصب حاكم الواحة، في عهد الملك "بيبي الثاني"،  في مركز هذه الجبانة.

بعد نحو خمسة كيلومترات، تقع قرية "البشندي". ويتطلب الوصول إليها، هي أيضاً، السير لعدة كيلومترات، على طريق متفرع من الطريق الرئيسي. ويحكي أهل القرية أن أصل هذه التسمية يعود إلى شيخ صالح، جاء من الهند، فكانوا يطلقون عليه "الباشا هندي". وكان يجلس في مسجد القرية، وهو مسجد صغير، كي يقوم بتدريس العلم. وحين توفاه الله، دفنه أهل القرية حيث كان يجلس، بالمسجد. وأصبحت القرية كلها تُعرف باسمه، بعد أن تم تحريف الإسم، إلى "بشندي". وبجوار ضريح الشيخ البشندي، تقع مقبرة كيتانوس الرومانية، التي تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد. وهي مزينة برسوم فرعونية.

خرجت من القرية، وسرت على الطريق الفرعي، حتى عدت إلى الطريق الرئيسي، المؤدي للخارجة. وبعد قليل، مررت بقرية تنيدة. وتخطيتها، لأصبح محاطاً بالصحراء، وأمر على منطقة بها تشكيلات حجرية جميلة. ثم اصل إلى كمين شرطة تنيدة، الذي شهد حادثاً مروعاً في الأسبوع الماضي، نتج عن إنقلاب سيارة أجرة، على أثر إنفجار أطارها. أخبرني أفراد الشرطة في الكمين، أن الرياح لا تكون بهذه الشدة طوال الوقت، كما أنها لا تهب في هذا الإتجاه المعاكس باستمرار، وأنها قد تنقلب لصالحي في أي وقت، لكن ذلك لم يحدث، خلال سفري على الطريق. فقد ظلت الرياح تهب معاكسة، مما أنهك قواي تماماً.

مررت بنقطة اسعاف الكيلو 121، فقررت المبيت عندها. قابلت أحد المسعفين، الذي أخبرني بأنه عليه مراجعة زميله، كي يؤكد لي، أنه لا توجد مشكلة، في أن أقضي ليلتي في نقطة الاسعاف. جلست على الرصيف خارج النقطة، متأملاً في هدوء المكان. بعد قليل خرج شاب بشوش في منتصف العشرينات، موجهاً كلامه إلي، بصوت مرتفع، ووجه ينضح بابتسامة عريضة دافئة، قائلاً: "هاللو". أخبرته بانني مصري، فأتسعت إبتسامته أكثر.

أبو اليزيد اخصائي خدمات اسعاف، يقضي 13 يوم متواصلة، في هذا المكان، هو وزميله، الذي قابلته في البداية، والذي يعمل كسائق، على سيارة الاسعاف. وهما يحصلان على اجازة لباقي الشهر، ويتناوبان العمل خلال اليوم، مع زميلين آخرين، يقودان سيارة اسعاف اخرى. لكنهما كانا يجريان لها صيانة في ذلك اليوم. فلم يكن في نقطة الاسعاف، سوى أبو اليزيد، وزميله.

جلسنا نتسامر أثناء تناول العشاء. عرفت من أبو اليزيد أن عائلته قد جاءت اصلاً من الصعيد، لتعيش في الخارجة، وذلك لظروف عمل والده. وقد قضى هو عمره في الواحات، ولا يعرف لنفسه بلداً سواها. ونظراً لأنه لم يجد عملاً في تخصصه، كمدرس للغة العربية. فقد قرر العمل في مجال الاسعاف، وأحبه. سألته إذا ما كان قد تمت تسميته على اسم جده. فحكي لي أنه قد ولد في نفس اليوم الذي توفي فيه مأذون قريتهم بالصعيد. ولما كان والده يحب ذلك الرجل، فقد منح اسمه، لطفله الوليد.

يحكي أبو اليزيد أنه قد تمر عليهم عدة شهور، بدون أن يتم استدعائهم لأي حالة. كما قد يتم استدعائهم لأكثر من حالة، خلال فترة قصيرة. ففي عملهم، لا توجد قاعدة ثابتة. وهم مسئولون عن تغطية طريق الخارجة-الداخلة باكمله، إلا أن هناك نقطة اسعاف اخرى، في النصف الثاني من الطريق، تشاركهم المسئولية.

حل الليل، وخرجت لأتأمل في السماء والنجوم. كان الجو منعشاً للغاية، والسماء مرصعة بالنجوم. لا يوجد في هذا الفضاء الكوني الفسيح، سوى نقطة الاسعاف، ونحن الثلاثة الموجودين بها. جلست وحدي، أنظر للسماء والصحراء. أشعر كأننا ضيوف عابرين على هذا المكان. إذ يبدو الكون شاسعاً، ونحن نقطة في غاية الضآلة بالنسبة إليه، لكننا لسنا كذلك بالنسبة لأنفسنا. أستمتع بضوء السيارات التي تعبر من آن إلى آخر، وهو ينعكس على الجبال المحيطة بالنقطة، فيبدو وكانه عرض للصوت والضوء، يستمر للحظات، ثم يعود الظلام دامساً مرة اخرى، لا يهتك ستره سوى الضوء المنبعث من نقطة الاسعاف. يسقط شعوري بالزمن، فارى بعيني خيالي القوافل العابرة في هذا المكان، منذ مئات السنين. مسافرون عرب، يرتدون الجلباب والعقال العربي، يسيرون بالجِمال ليلاً، حتى يتفادوا قيظ النهار بالغ الحرارة. يسيرون لأميال واميال، مطرقي الرؤوس، ومن آن إلى أخر، يتطلعون إلى السماء، ليعرفوا طريقهم من النجوم. أفكر في من مروا بهذا الطريق، ومن جابوا هذه الصحراء، أو صحارٍ أخرى تشبهها. أولئك الذين جذبتهم الصحراء. أتخيل الرهبان المصريين الفارين من بطش الرومان، إلى أحضان الصحاري والجبال. أفكر في النساك الهنود في كهوف جبال الهمالايا، وعلى قممها، والرهبان البوذيين في صحاري أسيا الجافة. اتخيل أنبياء بني اسرائيل وهم يجوبون الصحاري، ومعهم تلاميذهم، والمتصوفة المسلمين المرابطين على قمم الجبال، طلباً للوصلة بالله. اتخيلهم جميعاً، بعيني خيالي، وهم يتجهون للخالق، جل وعلى. يعرفونه باسماء مختلفة، لكنهم جميعاً، في أعماق قلوبهم، يعرفون انهم يتجهون لنفس الإله.

  كنت مرهقاً للغاية، لكنني كنت أغالب النوم، قدر استطاعتي. فالمشهد، واحساسي به، كان فوق قدرة الكلمات على الوصف. أردت أن أوقف الزمن، كيلا يطلع النهار. هذه ليلة يصعب علي ان أنساها، ما ابدع هذا الكون، تبارك الخالق.

أستيقظت مبكراً، وودعت أبو اليزيد، لأنطلق في طريقي. وعند الظهر، مررت بقرية مستصلحة اسمها الزيات. سرت على طريق قصير غير ممهد، كي أعثر على كافتريا لتناول الغذاء. سألت مجموعة صغيرة من الأطفال، فدلوني على قهوة، إذ لم يكن هناك أي مطعم.  ظهرت مجموعة أخرى من اللأطفال، تلتها آخرى، وآخرى، لأنتبه انني قد صادفت موعد خروج طلبة المدارس. بدأ الأطفال يتزايدون وهم يتحركون نحوي بحماس شديد ، ويصيحون: "هاللو". أوضحت لهم أنني مصري. بدأ تلاميذ أكبر سناً في الظهور، تلاهم آخرون، أكبر، يبدو عليهم أنهم في المرحلة الثانوية.  بدا الموقف هزلياً، لكن سخيفاُ. وفي خلال دقائق، أصبح هناك ما لا يقل عن ثلاثون أو اربعون تلميذاً، من أعمار متفاوتة، يحيطون بالعجلة، مبدين إهتماماً شديداً بها. لم يُفلح توجيههم برفق في ابعادههم عنها. فما كان مني سوى أن أخرجت عصا صغيرة، ولوحت بها في الهواء، فأنفضوا من حولي. تحركت نحو الطريق الرئيسي بسرعة، وتوجهت نحو القهوة، لأشرب الشاي، وأشتري بعض البسكويت. ثم إنطلقت مرة اخرى على الطريق.

سرت، ومن حولي الصحراء، حتى وصلت إلى منطقة فوسفات أبو طرطور. كان متبقياً على المغرب نحو الساعة. قطعت عدة كيلومترات، عابراً مدناً سكنية، تبدو مهجورة من بعيد، ومنشآت عديدة تابعة لمشروع فوسفات أبو طرطور. وتوقفت عند بوابة المشروع، لأستاذن الأمن في التخييم، بجوارهم. رحبوا بي للغاية، واخبروني أنه لا توجد حاجة للتخييم أصلا، وأن بأمكاني قضاء الليل في حجرة الأمن. في المساء حضر العديد من العاملين بالشروع، من مختلف التخصصات. أخذوا يسألونني عن رحلتي باهتمام، واستغراب. كما حكوا لي عن المنجم، وعن عملهم به.

المنجم تابع لوزارة البترول، وهو يقع على هضبة ممتدة لمساحة شاسعة، يصل ارتفاعها إلى نحو 150 متراً. ويحتوي على أنفاق يبلغ اجمالي طولها 20 كم. وقد سمعت حكايات رهيبة عن ظروف العمل في المنجم، حتى التسعينيات. حيث كانوا يستخرجون الفوسفات من تحت الأرض. وكانت درجة الحرارة في الأنفاق تصل، وفقاً لروايتهم، لـ 65درجة مئوية. وعلى الرغم من وجود "مراوح" لتحريك الهواء. لكنه كان مع ذلك، يظل ساخناً. وهناك من وافتهم المنية في تلك الأنفاق، أو تعرضت أرجلهم للبتر، نتيجة حدوث انهيارات فوق رؤوسهم. ووصل الأمر، في السبعينيات، أن ظل الضحايا مدفونين في الأنفاق، لاستحالة استخراج جثامينهم. لكن الوضع قد تحسن، وفقاً لكلامهم، في الألفية الجديدة.

عرفت منهم أن هذه المنطقة كانت تحت سطح البحر، منذ ملايين السنين، قبل أن ينحسر البحر عنها. ولذلك فالفوسفات الموجود بها، يتشكل من رواسب بحرية. وقد حكوا لي أنهم يعثرون باستمرار على أسنان حيتان أثناء العمل. ويتفاوت لون السن بحسب لون الفوسفات المحيط به. أبديت إهتمامي بمعرفة المزيد عن ذلك. فما كان منهم إلا أن ارسلو في طلب أسنان حوت، وقاموا، مشكورين بإهدائي إثنتين منها. ولا يمكنني ان اعرف إذا ما كانت هذه الأسنان حوت فعلاً، أم لنوع أخر من الأسماك. فالواحدة منها في حجم عقلتي اصبع، أو ثلاثة. ولا يمكن تصور أن أسنان الحوت صغيرة بهذا الشكل. إلا أنها على أية حال "تحفة طبيعية"، لأن وجودها في هذه الصحراء يؤكد أنها تعود لحقب زمنية بالغة القدم. وسأعمل لدى عودتي للقاهرة، بإذن الله، على الرجوع للخبراء، للتحقق من هذه الأسنان.

أجمل ما في السفر بالدراجة، أنه يتيح لك التعرف على الناس عن قرب. فقد قضيت الليلة السابقة، في نقطة اسعاف، متعرفاً على العاملين بها، وعلى حياتهم اليومية هناك. ثم قضيت الليلة التالية، عند البوابة في منجم فوسفات، لأستمع إلى حكايات عن الحياة والعمل في المنجم. لا يتيح لك السفر باي وسيلة مواصلات سريعة ذلك. لكن الدراجة تجعلك حقاً، جزءاً من الطريق الذي تسير عليه، وتتيح لك درجة عالية جداً من التواصل، مع الموجودين، على ضفتي ذلك الطريق.


 استيقظت مبكراً، وأنطلقت، قاطعاً الـ 42 كم المتبقية، لأصل إلى واحة الخارجة...عند الظهيرة.

هناك تعليقان (2):

  1. أتساءل أحياناً عن حقيقة تلك الحكايات! لأكتشف أن تساؤلى منبعه شدة جمالها و طزاجتها!!! أتساءل عن زمن قلت فيه المعجزات! فهل تظهر يد الحافظ على هيئة سيارة عابرة كى تتسبب فى هروب خطر أكيد اسمه الكلاب! وهل هى صدفة أن نتوحد معه فيتسنى لنا رؤيته فى أمسية منعشة تتجمل بالنجوم كى نشكره بصلاة قلبية نقية!! مازالت حكاياتك يا صديق تؤكد لنا أن المعجزات هنا بيننا و لن نراها حتى نفتح عيون قلوبنا عن آخرها - هنيئاً لك
    الله الحافظ

    ردحذف
  2. إن الله لطيف بعباده، نحمدك ونشكرك يا إلهي أن عنايتك ورعايتك قد ظهرت لنا جلية واضحة في حمايتك لإبننا محمد من تلك الكلاب الشرسة. إنها رحلة مليئة بالعبر والكنوز الإنسانية. وفقك الله يا محمد

    ردحذف