الأربعاء، 18 ديسمبر 2013

14- رحلة حول مصر بالدراجة- واحة الخارجة

كنت على مشارف واحة الخارجة، حين دق جرس تليفوني المحمول. عادة ما أغلقه وأنا على طريق السفر بالدراجة، حتى لا ينفذ شحن البطارية. لكنني كنت قد فتحته، نظراً لكوني قد اوشكت على الوصول إلى الواحة. أجبت الهاتف، فوجدت الصوت على الجانب الآخر يعرفني بنفسه، بأنه مدير العلاقات العامة، ورئيس لجنة الصحافة والإعلام، بجمعية أصدقاء السائح. أخبرني أنه يرغب في إرسال من يلتقي بي عند مدخل الخارجة، للترحيب بي، وتسجيل لقاء معي بالفيديو. استجبت لهذه الدعوة، وقمت بتسجيل لقاء سريع عن رحلتي. تحدثت  بعدها قليلاً مع المصور، وفهمت منه انه يعمل لحساب بعض المواقع الإخبارية الأخرى. أوضحت له أنني لا ارحب بالحديث عن رحلتي لدى اي موقع له إنتماءات وميول سياسية، حيث أن هدفي من هذه الرحلة هو إعادة اكتشاف الحضارة المصرية. وكررت ترحيبي بالتصوير مع جمعية اصدقاء السائح، دون غيرها.
 اصطحبني المصور، لمقابلة رئيس لجنة الصحافة والإعلام بالجمعية. وقد استقبلني الرجل بترحاب شديد، وأبدى إهتماماً بالغاً بالرحلة. تجاذبنا أطراف الحديث، وعرفت منه أنه يقوم بالعديد من الأنشطة الصحفية. فأوضحت له ما سبق لي توضيحه للمصور، وأبدى هو تفهمه لذلك. وقد رافقني، بكاميرته، في الايام التالية، خلال زيارتي لمعبد هيبس، ومقابر البجوات.
يقع معبد هيبس على مسافة قصيرة جداً، من واحة الخارجة، باتجاه الشمال. وهو يحمل نفس الإسم القديم للواحة (هبت – هيبس). إذ أن "هيبس" هو المصطلح اليوناني، للكلمة المصرية القديمة "هبت"، والتي تعني "المحراث". وقد بدأ بناء المعبد فى عهد الأسرة "26"، و استكمل فى عصر الملك الفارسى داريوس الأول (الأسرة 27). ودخلت عليه أضافات أخرى بعد ذلك. والمعبد به مناظر ونقوش عديدة، لها أهمية كبيرة، في فهم الديانة المصرية القديمة. وبعض أجزائه تخضع للترميم منذ عدة سنوات.
وتقع جبانة "البجوات" المسيحية، بالقرب من معبد "هيبس". وقد شهد القرن الثاني الميلادي بداية المقابر المسيحية في "البجوات"، والتي أستمرت حتى القرن السابع. وتتمتع هذه الجبانة التاريخية، بأسلوب معماري مميز. حيث بنيت المنطقة على شكل "أقبية"، أو "قبوات" وتنطق "جبوات". ثم تم تبديل حروفها، لتصبح "بجوات". وجدران مقابرها مزدانة برسومات دينية مسيحية قيمة.  ويُعد مزاري "الخروج" و"السلام" من المزارات الهامة جدا فيهاً. ويصور مزار "الخروج" قصة خروج بني إسرائيل بقيادة النبى موسى من مصر، كما يصور نوح والسفينة، وآدم وحواء، ويونس والحوت، وغيرهم. في حين يضم مزار "السلام" رسومات، على الطراز البيزنطي، لعدد من الأنبياء والشخصيات الدينية، مثل آدم وابراهيم واسحاق ودانيال عليهم السلام. بالإضافة إلى سارة، والسيدة مريم العذراء، و(EIRHNH) رمز السلام. ويعود هذا المزار إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي.
وتشمل جبانة "البجوات" 236 كنيسة/ مقبرة. عثر  الحارس على آثار لثعبان في إحداها، ونحن معاً. لم نشاهد الثعبان نفسه، لكن الحارس عرف من آثاره أنها "الحية المقرنة"، المعروفة باسم "الطريشة". وهي واحدة من أخطر أنواع الآفاعي، التي تعيش على الاراضي المصرية.

وواحة الخارجة، هي آخر الواحات المصرية الخمس، من جهة الجنوب. لذلك كان المصريون القدماء، يطلقون عليها، هي وواحة الداخلة معاً، الواحة الجنوبية. ويعود تاريخ السكان الأوائل للواحة، إلى العصر الحجري القديم. كما تعود الإتصالات بين سكان الواحة القدامى، ووادي النيل، إلى عصر ما قبل الأسرات، أي من 4000، حتى 3200 سنة قبل الميلاد. وأستمر ذلك في عهد الدولة القديمة، والوسطى. وقد كانت الواحة مركزاً للإنتاج الزراعي في عهد الدولة الوسطى، وبداية الدولة الحديثة. والواحة بها العديد من المعابد، والمراكز الحضارية، التي تنتمي لعصور تاريخية مختلفة.
وتتميز الخارجة بالنخيل والبلح. وقد ذكر لي أحد السكان أنه لو تم جلب فسيلة بلح مزروع في الواحة، ثم تم زراعتها في مكان آخر، بعيداً عن الواحات، فستكون الثمار الناتجة عن ذلك مختلفة تماماً، إلا إذا ما تم زراعتها في المدينة المنورة. ولا اعلم مدى دقة هذا الكلام علمياً. لكنني أنقله كما سمعته، والعهدة على الراوي.
وتُعد الخارجة أكثر مدن الوادي الجديد تطوراً، فهي عاصمة المحافظة، وتتوافر بها كافة الخدمات الأساسية. وعلى الرغم من ذلك، تتسم الحياة فيها، بشكل عام، بالهدوء والسلاسة، مقارنة بغيرها من المدن المصرية. وقد عرفت من بعض الأهالي أن البث التلفزيوني قد وصل للخارجة سنة 1980، وكان ذلك لمدة ثلاثة ساعات فقط، في المساء. وظلت مدة الارسال تزيد تدريجياً، حتى وصلت إلى فترة الارسال الكاملة، بحلول منتصف الثمانينات.
وقد حظيت بفرصة لقاء الحاجة أم أحمد، وهي سيدة تنتمي للجيل الذي عاش في الواحة، قبل ان تشهد كل هذا التحديث والمدنية. حكت لي عن بعض العادات القديمة في الخارجة. ففي رمضان، كانت الناس تُخرج الطبلية امام بيوتها، وتضع عليها الطعام و"الممبار". وفي ليلة 27 رمضان، يضعون الرز والفتة في القدح، وينطقونها "الجَدَح". ثم يضيفون إليها نسائل من اللحم، وليس قطعاً كبيرة، نظراً لضيق ذات اليد. وكانوا يستخدمون الحطب، حيث كان الأغنياء فقط، هم من يتمكنون من شراء "وابور جاز". وتبتسم الحاجة "أم أحمد" وهي تتذكر أنهم كانوا يقومون بوضع بلحة في فمهم، للتحلية، أثناء شرب الشاي. وذلك كبديل عن "السكر"، الذي لم يكن متوافراً. وتعلق على ذلك بأن "الناس زمان كان فيها خير وبركة".
وهي تذكر أن العريس، لو كان غنياً، كان يحضر لعروسه جلبابين، أو ثلاثة. في حين كانت والدة العروس تقوم بعمل لحاف من القطن، لدى المنجد، لتعطيه لها. وترتدي العروس، في الفرح، فستاناً أبيض، مزين بأشكال الورود الملونة، كما تضع "شالاً" من القطيفة الحمراء. وتجلس النساء في الفرح، ليغنين، وهن يضربن على "الطار"، وهو يشبه الدف، ومصنوع من جلد الماعز.
تسرح "أم أحمد" بعينيها، وهي تتذكر أغنية كانت تُغنى في الأفراح، وتدندن بكلمات الأغنية:
مـحلى ليالـي الفـرح
أملا وأكيل بالجدح
لامـلا وأكـيـل وأزيـده
وإن جاني حبيبي لأغنيله
وأنا جابلته على بحر رشيـد
لابس سكروته وبالطو جديد
وقـلتلـه فـي الـعمـر تزيـد
ضحك وقال...قلبي إنشرح
والسكروتة هي الجلباب الملون. تركت الحاجة "أم أحمد" مع ذكرياتها، وعدت إلى الفندق الذي أقيم فيه بالخارجة، لأستريح، استعداداً ليوم آخر.
تعود أصول الكثير من عائلات الواحة إلى اسنا ومنفلوط، وغيرها. كما توجد بعض العائلات التي تسري بها دماء تركية. ومثلها مثل واحة الداخلة، يعيش البدو في الخارجة جنباً إلى جنب مع الفلاحين. تتداخل عوالمهم في بعض الاحيان، وتنفصل هذه العوالم في معظم الوقت. وبدو الخارجة ينتسبون إلى أكثر من قبيلة. ولكل قبيلة منها روابطها، وجذورها الممتدة في أماكن أخرى، سواء داخل مصر، أو في دول عربية أخرى.
تنحدر قبيلة "بِلِي" من بني قضاعة، في تبوك، وشمال المملكة العربية السعودية. وهم أبناء عمومة لقبيلة "جهينة". ويوجد أكبر تجمع لأبناء القبيلة في محافظة القليوبية، كما يوجد لها أفرع في قنا والإسماعيلية، بالإضافة إلى الوادي الجديد. وفي خمسينيات القرن العشرين، جاء مجموعات من أبناء القبيلة من قنا، ليستقروا في واحة الخارجة. لكن ذلك التاريخ لم يكن بداية علاقتهم بالخارجة، فقد كانوا يمرون عليها من ناحية "نقب دوش"، قبل تلك الفترة. إذ كانوا يتجهون إلى منطقة قرب حدود السودان، ليحضروا حجراً يسمى "العطرون"، يتم العثور عليه هناك في صورة عروق كالملح، يقومون بتكسيرها، وتحميلها فوق الجمال، ثم العودة بها إلى وادي النيل. وكان بعض الفلاحين من سكان الواحات يمارسون نفس هذه التجارة، فقد كانت مجزية. ومع نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، لحقت قبيلة "الشرارات" بقبيلة "بِلِي"، وأستوطنت مجموعات من أبنائها الواحة.
أما قبيلة "العوازم"، فهي وإن كان بعض أبنائها قد سبقوا غيرهم، واستقروا بالخارجة قبلهم، لكن عدد أبناء هذه القبيلة في الخارجة محدود للغاية، وذلك على الرغم من كثرتهم العددية في أماكن أخرى، كـ"اسنا" مثلاً، كما يوجد لهم تواجد ملحوظ في اسوان وسوهاج، وأماكن أخرى. وتنحدر قبيلتي "الشرارات" و"العوازم"، من قبيلة "عبس" العربية.
وفي حالة حدوث مشاكل بين قبيلتين، يفصل فيها قضاه عرفيين من القبيلتين، أو من قبيلة ثالثة. لكن في كافة الأحوال، تعد العادات والتقاليد والأحكام، التي تنظم حياة أبناء هذه القبائل متشابهة، بدرجة تقترب من التطابق. وتشترك معهم في ذلك كل القبائل البدوية، التي ترجع جذورها إلى الجزيرة العربية والمشرق العربي. ولا يوجد اختلاف في العادات والتقاليد، إلا مع القبائل التي تعود أصولها إلى المغرب العربي، بدايةً من ليبيا، وإمتداداً إلى الشمال الأفريقي كله.
أما لو حدثت مشاكل بين أفراد من البدو والفلاحين، فيتم حلها بالطرق الرسمية عن طريق اللجوء للشرطة والمحاكم، وذلك نظراً لعدم وجود أي خلفية مشتركة تتعلق بالعادات والتقاليد، تجمع بين الطرفين، لذلك لا يكون هناك ثمة حل، سوى اللجوء "للحكومة".
ويحكي لي الشيخ أحمد الفلاح، وهو بدوي من قبيلة"بِلِي"، أن العلاقة بين البدو وسكان الخارجة الأصليين من الفلاحين، هي علاقة قائمة على الود، والاحترام المتبادل. لكن نظراً للاختلاف الكامل في أساليب الحياة بين الجانبين، فالتعامل بينهما يكون محدوداً، وفي حدود قضاء المصالح المشتركة. لكن ذلك لا يعني العزلة بأي حال من الأحوال، فأبناء البدو والفلاحين في الواحة، يذهبون إلى المدارس معاً، سواء في المركز أو المدينة. وتنمو بينهم الصداقات، التي ترعاها الزمالة، وصحبة الدراسة، وتستمر معهم بعد ذلك.
وتُعد قبيلة "بِلِي"، أكثر القبائل البدوية في محافظة الوادي الجديد، إهتماماً بالتعليم. وهي تحظى بأكبر عدد من الحاصلين على مؤهلات عليا، بين أبناء القبائل. يليها في ذلك"الرشايدة، الذين يتركزون في واحة "الداخلة"، ثم "الشرارات".
أما بالنسبة لتعليم البنات، فمن الطبيعي أن تكمل كل فتاة تعليمها الأساسي، حتى الصف الثالث الإعدادي. ثم بعد ذلك يتفاوت الامر من بيت لآخر. فبعض البيوت قد تكتفي بحصول ابنتها على هذا القدر من التعليم، والبعض الآخر يسمح لها بإستكمال تعليمها. وتوجد فتيات كثيرات حاصلات على مؤهل عالي. لكن بشكل عام، لا تعمل بنات الاسر البدوية، مهما كان قدر التعليم الذي حصلن عليه. فالهدف من التعليم والمؤهل العالي عندهم، ليس التأهيل للعمل، وإنما تأهيل المرأة لتربية أبنائها. حيث تكون اكثر نفعاً لابنائها، وهي متعلمة.
أستمتعت كثيراً، وتعلمت الكثير، من زيارة الواحات البحرية، والفرافرة، والداخلة، والخارجة. وتشكل كل من هذه الواحات عالماً قائماً بذاته، لكن يظل بينها الكثير من العناصر المشتركة. وقد منحتني الدراجة، فرصة التعرف على هذه الأماكن، عن قرب، ربما بأكثر مما كانت ستتيحه لي أي وسيلة سفر وتنقل أخرى.

 والآن أستعد لمغادرة الخارجة، منطلقاً بدراجتي... إلى الاقصر.

الأحد، 8 ديسمبر 2013

13- رحلة حول مصر بالدراجة- الطريق إلى واحة الخارجة


كانت الساعة قد بلغت الواحدة والنصف ظهراً، حين تحركت من موط، في واحة الداخلة، متجهاً إلى الخارجة، التي تقع على مسافة 190 كم منها. سرت بدراجتي، متخطياً بعض القرى، ليصبح الطريق من حولي صحراوياً. الهواء يهب بشدة، وفي الاتجاه المعاكس. مما يجعل التقدم بالدراجة، بكل ما معي من حمولة، بطيئاً، وبالغ الصعوبة. قمت بتخفيض نقلات السرعة للتروس الأمامية للدراجة، إلى نقلة رقم واحد. وهي نقلة لا تتيح السير بأكثر من 15 كم في الساعة، لكنها تخفف الضغط على الساقين قليلاً. ولم يكن بإمكاني السير على سرعة تزيد عن ذلك، على أي حال، في مواجهة هذه الرياح الشديدة، حتى لو كنت أسير على نقلة أسرع من ذلك.

وبينما كنت أسير بدراجتي منهكاً، وشارد الذهن قليلاً، والصحراء تحيطني من كل جانب. فإذا بي أجد اللون الأخضر، الخاص بالزراعات، يظهر على جانبي الطريق. وفي نفس اللحظة، فوجئت بمجموعة من الكلاب تهاجمني. بدأت في تحريك البدال بأقصى سرعة ممكنة، لكنها لم تكن كافية. ففي مواجهة الرياح، وبهذه السرعة المنخفضة، كانت الكلاب تعدو بجواري، وهي تنبح بشراسة. قمت بنقل الترس الأمامي من "1" إلى "2"، ثم "3"، لكن ذلك لم يجد نفعاً على الإطلاق. فالرياح ظلت كما هي، تحول بيني وبين زيادة السرعة. أخذت أصرخ في الكلاب بصوت مرتفع، لكنني فهمت وقتها معنى المثل العربي القديم" ذهب ادراج الرياح". فهذا هو بالضبط ما حدث لصوتي. فلا صوت صراخي وصل إلى الكلاب، بسبب الريح، ولا كان من الممكن أن أسبقهم أبداً، في مثل هذه الظروف. وقبل أن تقترب الكلاب مني أكثر من ذلك؛ بدأت أنتبه لصوت سيارة تتحرك من ورائي على يمين الطريق. نظرت بطرف عيني وأنا مستمر في محاولة الهرب من الكلاب والصراخ فيها، لأجد من في السيارة يعملون على إبعاد الكلاب عني. وما بين إستمراري في الحركة، وبين ما يفعله راكبي السيارة؛ توقفت الكلاب عن مطاردتي. وبعد أن تأكدت إنني قد إبتعدت عنهم بما يكفي؛ توقفت لإلتقاط أنفاسي.

دخلت قرية بلاط، وقد بقى على المغرب نحو ساعة. وتوجهت لمشاهدة مدينة بلاط الإسلامية. وهي مدينة أثرية مشيدة بالطوب اللبن، ترجع إلى العهد العثماني. وتتكون من حارات ودروب وازقة، وفقاً لنظام المدن الإسلامية. ومنازلها مبنية من طابقين.

أنهيت زيارتي للمدينة القديمة قي بلاط، قبل المغرب بقليل. لم يكن هناك وقت كافٍ للخروج من نطاق القرية، والاستعداد للتخييم في مكان مناسب. قررت المبيت داخل قرية بلاط نفسها. وقضيت ليلتي داخل أحد المساجد.

 وفي الصباح، توجهت إلى بلاط الفرعونية، التي تقع على طريق متفرع من الطريق الرئيسي. وهي تتكون من مجموعة من المصاطب (المقابر)، يطلق عليها قلاع الضبة، وتعود إلى الأسرة السادسة، (2460-2200) قبل الميلاد. وتقع مقبرة "خنتيكا"، الذي كان يشغل منصب حاكم الواحة، في عهد الملك "بيبي الثاني"،  في مركز هذه الجبانة.

بعد نحو خمسة كيلومترات، تقع قرية "البشندي". ويتطلب الوصول إليها، هي أيضاً، السير لعدة كيلومترات، على طريق متفرع من الطريق الرئيسي. ويحكي أهل القرية أن أصل هذه التسمية يعود إلى شيخ صالح، جاء من الهند، فكانوا يطلقون عليه "الباشا هندي". وكان يجلس في مسجد القرية، وهو مسجد صغير، كي يقوم بتدريس العلم. وحين توفاه الله، دفنه أهل القرية حيث كان يجلس، بالمسجد. وأصبحت القرية كلها تُعرف باسمه، بعد أن تم تحريف الإسم، إلى "بشندي". وبجوار ضريح الشيخ البشندي، تقع مقبرة كيتانوس الرومانية، التي تعود إلى القرن الأول قبل الميلاد. وهي مزينة برسوم فرعونية.

خرجت من القرية، وسرت على الطريق الفرعي، حتى عدت إلى الطريق الرئيسي، المؤدي للخارجة. وبعد قليل، مررت بقرية تنيدة. وتخطيتها، لأصبح محاطاً بالصحراء، وأمر على منطقة بها تشكيلات حجرية جميلة. ثم اصل إلى كمين شرطة تنيدة، الذي شهد حادثاً مروعاً في الأسبوع الماضي، نتج عن إنقلاب سيارة أجرة، على أثر إنفجار أطارها. أخبرني أفراد الشرطة في الكمين، أن الرياح لا تكون بهذه الشدة طوال الوقت، كما أنها لا تهب في هذا الإتجاه المعاكس باستمرار، وأنها قد تنقلب لصالحي في أي وقت، لكن ذلك لم يحدث، خلال سفري على الطريق. فقد ظلت الرياح تهب معاكسة، مما أنهك قواي تماماً.

مررت بنقطة اسعاف الكيلو 121، فقررت المبيت عندها. قابلت أحد المسعفين، الذي أخبرني بأنه عليه مراجعة زميله، كي يؤكد لي، أنه لا توجد مشكلة، في أن أقضي ليلتي في نقطة الاسعاف. جلست على الرصيف خارج النقطة، متأملاً في هدوء المكان. بعد قليل خرج شاب بشوش في منتصف العشرينات، موجهاً كلامه إلي، بصوت مرتفع، ووجه ينضح بابتسامة عريضة دافئة، قائلاً: "هاللو". أخبرته بانني مصري، فأتسعت إبتسامته أكثر.

أبو اليزيد اخصائي خدمات اسعاف، يقضي 13 يوم متواصلة، في هذا المكان، هو وزميله، الذي قابلته في البداية، والذي يعمل كسائق، على سيارة الاسعاف. وهما يحصلان على اجازة لباقي الشهر، ويتناوبان العمل خلال اليوم، مع زميلين آخرين، يقودان سيارة اسعاف اخرى. لكنهما كانا يجريان لها صيانة في ذلك اليوم. فلم يكن في نقطة الاسعاف، سوى أبو اليزيد، وزميله.

جلسنا نتسامر أثناء تناول العشاء. عرفت من أبو اليزيد أن عائلته قد جاءت اصلاً من الصعيد، لتعيش في الخارجة، وذلك لظروف عمل والده. وقد قضى هو عمره في الواحات، ولا يعرف لنفسه بلداً سواها. ونظراً لأنه لم يجد عملاً في تخصصه، كمدرس للغة العربية. فقد قرر العمل في مجال الاسعاف، وأحبه. سألته إذا ما كان قد تمت تسميته على اسم جده. فحكي لي أنه قد ولد في نفس اليوم الذي توفي فيه مأذون قريتهم بالصعيد. ولما كان والده يحب ذلك الرجل، فقد منح اسمه، لطفله الوليد.

يحكي أبو اليزيد أنه قد تمر عليهم عدة شهور، بدون أن يتم استدعائهم لأي حالة. كما قد يتم استدعائهم لأكثر من حالة، خلال فترة قصيرة. ففي عملهم، لا توجد قاعدة ثابتة. وهم مسئولون عن تغطية طريق الخارجة-الداخلة باكمله، إلا أن هناك نقطة اسعاف اخرى، في النصف الثاني من الطريق، تشاركهم المسئولية.

حل الليل، وخرجت لأتأمل في السماء والنجوم. كان الجو منعشاً للغاية، والسماء مرصعة بالنجوم. لا يوجد في هذا الفضاء الكوني الفسيح، سوى نقطة الاسعاف، ونحن الثلاثة الموجودين بها. جلست وحدي، أنظر للسماء والصحراء. أشعر كأننا ضيوف عابرين على هذا المكان. إذ يبدو الكون شاسعاً، ونحن نقطة في غاية الضآلة بالنسبة إليه، لكننا لسنا كذلك بالنسبة لأنفسنا. أستمتع بضوء السيارات التي تعبر من آن إلى آخر، وهو ينعكس على الجبال المحيطة بالنقطة، فيبدو وكانه عرض للصوت والضوء، يستمر للحظات، ثم يعود الظلام دامساً مرة اخرى، لا يهتك ستره سوى الضوء المنبعث من نقطة الاسعاف. يسقط شعوري بالزمن، فارى بعيني خيالي القوافل العابرة في هذا المكان، منذ مئات السنين. مسافرون عرب، يرتدون الجلباب والعقال العربي، يسيرون بالجِمال ليلاً، حتى يتفادوا قيظ النهار بالغ الحرارة. يسيرون لأميال واميال، مطرقي الرؤوس، ومن آن إلى أخر، يتطلعون إلى السماء، ليعرفوا طريقهم من النجوم. أفكر في من مروا بهذا الطريق، ومن جابوا هذه الصحراء، أو صحارٍ أخرى تشبهها. أولئك الذين جذبتهم الصحراء. أتخيل الرهبان المصريين الفارين من بطش الرومان، إلى أحضان الصحاري والجبال. أفكر في النساك الهنود في كهوف جبال الهمالايا، وعلى قممها، والرهبان البوذيين في صحاري أسيا الجافة. اتخيل أنبياء بني اسرائيل وهم يجوبون الصحاري، ومعهم تلاميذهم، والمتصوفة المسلمين المرابطين على قمم الجبال، طلباً للوصلة بالله. اتخيلهم جميعاً، بعيني خيالي، وهم يتجهون للخالق، جل وعلى. يعرفونه باسماء مختلفة، لكنهم جميعاً، في أعماق قلوبهم، يعرفون انهم يتجهون لنفس الإله.

  كنت مرهقاً للغاية، لكنني كنت أغالب النوم، قدر استطاعتي. فالمشهد، واحساسي به، كان فوق قدرة الكلمات على الوصف. أردت أن أوقف الزمن، كيلا يطلع النهار. هذه ليلة يصعب علي ان أنساها، ما ابدع هذا الكون، تبارك الخالق.

أستيقظت مبكراً، وودعت أبو اليزيد، لأنطلق في طريقي. وعند الظهر، مررت بقرية مستصلحة اسمها الزيات. سرت على طريق قصير غير ممهد، كي أعثر على كافتريا لتناول الغذاء. سألت مجموعة صغيرة من الأطفال، فدلوني على قهوة، إذ لم يكن هناك أي مطعم.  ظهرت مجموعة أخرى من اللأطفال، تلتها آخرى، وآخرى، لأنتبه انني قد صادفت موعد خروج طلبة المدارس. بدأ الأطفال يتزايدون وهم يتحركون نحوي بحماس شديد ، ويصيحون: "هاللو". أوضحت لهم أنني مصري. بدأ تلاميذ أكبر سناً في الظهور، تلاهم آخرون، أكبر، يبدو عليهم أنهم في المرحلة الثانوية.  بدا الموقف هزلياً، لكن سخيفاُ. وفي خلال دقائق، أصبح هناك ما لا يقل عن ثلاثون أو اربعون تلميذاً، من أعمار متفاوتة، يحيطون بالعجلة، مبدين إهتماماً شديداً بها. لم يُفلح توجيههم برفق في ابعادههم عنها. فما كان مني سوى أن أخرجت عصا صغيرة، ولوحت بها في الهواء، فأنفضوا من حولي. تحركت نحو الطريق الرئيسي بسرعة، وتوجهت نحو القهوة، لأشرب الشاي، وأشتري بعض البسكويت. ثم إنطلقت مرة اخرى على الطريق.

سرت، ومن حولي الصحراء، حتى وصلت إلى منطقة فوسفات أبو طرطور. كان متبقياً على المغرب نحو الساعة. قطعت عدة كيلومترات، عابراً مدناً سكنية، تبدو مهجورة من بعيد، ومنشآت عديدة تابعة لمشروع فوسفات أبو طرطور. وتوقفت عند بوابة المشروع، لأستاذن الأمن في التخييم، بجوارهم. رحبوا بي للغاية، واخبروني أنه لا توجد حاجة للتخييم أصلا، وأن بأمكاني قضاء الليل في حجرة الأمن. في المساء حضر العديد من العاملين بالشروع، من مختلف التخصصات. أخذوا يسألونني عن رحلتي باهتمام، واستغراب. كما حكوا لي عن المنجم، وعن عملهم به.

المنجم تابع لوزارة البترول، وهو يقع على هضبة ممتدة لمساحة شاسعة، يصل ارتفاعها إلى نحو 150 متراً. ويحتوي على أنفاق يبلغ اجمالي طولها 20 كم. وقد سمعت حكايات رهيبة عن ظروف العمل في المنجم، حتى التسعينيات. حيث كانوا يستخرجون الفوسفات من تحت الأرض. وكانت درجة الحرارة في الأنفاق تصل، وفقاً لروايتهم، لـ 65درجة مئوية. وعلى الرغم من وجود "مراوح" لتحريك الهواء. لكنه كان مع ذلك، يظل ساخناً. وهناك من وافتهم المنية في تلك الأنفاق، أو تعرضت أرجلهم للبتر، نتيجة حدوث انهيارات فوق رؤوسهم. ووصل الأمر، في السبعينيات، أن ظل الضحايا مدفونين في الأنفاق، لاستحالة استخراج جثامينهم. لكن الوضع قد تحسن، وفقاً لكلامهم، في الألفية الجديدة.

عرفت منهم أن هذه المنطقة كانت تحت سطح البحر، منذ ملايين السنين، قبل أن ينحسر البحر عنها. ولذلك فالفوسفات الموجود بها، يتشكل من رواسب بحرية. وقد حكوا لي أنهم يعثرون باستمرار على أسنان حيتان أثناء العمل. ويتفاوت لون السن بحسب لون الفوسفات المحيط به. أبديت إهتمامي بمعرفة المزيد عن ذلك. فما كان منهم إلا أن ارسلو في طلب أسنان حوت، وقاموا، مشكورين بإهدائي إثنتين منها. ولا يمكنني ان اعرف إذا ما كانت هذه الأسنان حوت فعلاً، أم لنوع أخر من الأسماك. فالواحدة منها في حجم عقلتي اصبع، أو ثلاثة. ولا يمكن تصور أن أسنان الحوت صغيرة بهذا الشكل. إلا أنها على أية حال "تحفة طبيعية"، لأن وجودها في هذه الصحراء يؤكد أنها تعود لحقب زمنية بالغة القدم. وسأعمل لدى عودتي للقاهرة، بإذن الله، على الرجوع للخبراء، للتحقق من هذه الأسنان.

أجمل ما في السفر بالدراجة، أنه يتيح لك التعرف على الناس عن قرب. فقد قضيت الليلة السابقة، في نقطة اسعاف، متعرفاً على العاملين بها، وعلى حياتهم اليومية هناك. ثم قضيت الليلة التالية، عند البوابة في منجم فوسفات، لأستمع إلى حكايات عن الحياة والعمل في المنجم. لا يتيح لك السفر باي وسيلة مواصلات سريعة ذلك. لكن الدراجة تجعلك حقاً، جزءاً من الطريق الذي تسير عليه، وتتيح لك درجة عالية جداً من التواصل، مع الموجودين، على ضفتي ذلك الطريق.


 استيقظت مبكراً، وأنطلقت، قاطعاً الـ 42 كم المتبقية، لأصل إلى واحة الخارجة...عند الظهيرة.

الاثنين، 2 ديسمبر 2013

12- رحلة حول مصر بالدراجة- الداخلة- موط

 غادرت القصر، متجهاً إلى موط، المركز الرئيسي لواحة الداخلة، والتي تبعد عنها بنحو 35 كم. لم أسلك الطريق الرئيسي القادم من الفرافرة. وإنما اخترت طريق أخر يسير بين القرى والحقول، ويبعد عن موط بنفس المسافة، تقريباً.

سرت بدراجتي على الطريق، ومن حولي مزارع وأراضي خضراء، بها تجمعات بديعة للمياه، وأسوار للمزارع والبيوت تتسم بالبساطة والجمال. وأشاهد الصحراء والتلال الصخرية، من وراء الشريط الأخضر الزاهي، المحيط بالطريق. ومن آن إلى آخر، يمر رجل على موتوسيكل، وأحياناً ما قد تجد زوجته خلفه. فالموتوسيكل وسيلة مواصلات أساسية هنا.

أستوقف رجلاً على موتوسيكل، لأسأله عن الطريق، فينظر إلي بشك وتعجب، لا يصدق أنني مصري. يظل يستفسر عما جاء بي إلى هنا، ويسألني عن أسمي ومهنتي، وأنا أرد عليه مبتسماً. يتعجب هو من وجودي، وأتعجب أنا من تعجبه.

على جانب الطريق، ألمح سيدة مسنة، لو قيل لي أنها تناهز المائة، لصدقت بسهولة. ظهرها محني، وكأنها تركع للصلاة. وجهها أقرب للارض منه للسماء.
كانت تسير على هذا الوضع، وهي تجر "شنطة" على الأرض. توقفت وتحركت نحوها قائلاً: "أشيل معاكي يا خالة؟"..لم أستوضح ما تقوله، لكن بدا انها تشكرني، ثم سألتني عمن أكون، فأجبتها: "لأ..أنا مش من هنا.. أنا غريب". وجهت وجهها نحوي، وقالت: "ما شاكلكش مش من هنا...شكلك من أهل البلد يا ولدي". ولما كان شكلي بالدراجة، وما عليها من حمولة، مرتدياً الخوذة، لا يمكن أن يوحي بأنني من اهل البلد، بأي حال من الأحوال، ناهيك عن لهجتي القاهرية. فقد إعتبرت تشبيهها لي بأنني من أهل البلد، تكريماً لي. تركت العجلة مستندة إلى شجرة. وحملت عنها الحقيبة للأمتار القليلة الباقية، حتى باب دارها. ثم تركتها مصحوباً بكلمات لم أسمعها بوضوح، لكن بدا واضحاً، من طريقتها، أنها تدعو لي. شعرت بيومي يمتلئ "بالبركة" للقاء هذه السيدة. وأكملت طريقي مستبشراً، ومنشرحاً. ما أجمل أن تُمنج الفرصة، وأنت على طريق السفر، كي تساعد غيرك، ولو بشئ بسيط للغاية. كما يقدم لك غيرك يد المساعدة، وأنت على الطريق.

أمر على القرى، واحدة تلو الأخرى. الناس، بشكل عام، ودودون للغاية. أواجه صعوبة في رفض دعوات الشاي وتناول الغذاء المتكررة، من مختلف الناس الذين اقابلهم على الطريق. لكنني أعتذر بلطف، وأستكمل طريقي إلى موط.

أمر على قرية القلمون. بها بحيرة تكونت من مياه الصرف الزراعي، وتُعرف بنفس الاسم. ويقال ان هذا الاسم له جذور فرعونية، ومعناه "عرش آمون". وقد كان بها قرية عربية قديمة، لكن الزمن قد نال منها الآن. والقرية تسكنها عائلة الشهداء، الذين ترجع أصولهم إلى المغرب، والغز، الذين ترجع أصولهم لمدينة غزة، بفلسطين، وغيرهم.

ويحكى أنه منذ زمن بعيد، كانت هناك عصابات مسلحة، تأتي هي أيضاً، من بعيد. كانوا يأتون من "تشاد"، ويقومون بمهاجمة الواحة، ونهب الثمار، وخطف الفتيات الجميلات. ثم يعودون إلى بلادهم، مرة اخرى، بكل هذه الغنائم. فما كان من عائلة "الشهداء" في القلمون، إلا ان قامت باستدراج هؤلاء المجرمين، ونصبت لهم الشباك. فلما سقطوا فيها، إنهالوا عايهم ضرباً، بالجزء السميك من جريد النخيل. ولقنوهم درساً قاسياً. ولكن هذا، لم يكن الدرس الوحيد، الذي لقنوهم أياه.

كانت العصابات التشادية، تأتي من بلادها، حاملين ضِعف كمية المياة، التي يحتاجونها للوصول إلى الواحة. ثم يقومون بدفن الكمية الزائدة، عند منتصف الطريق، بين بلادهم، والداخلة. ويستمرون بما معهم من ماء، حتى يصلوا إلى الواحة، ويمارسوا عادتهم في السلب والنهب. ثم يعودون ادراجهم، حاملين معهم كمية من الماء، تكفي لمنتصف الطريق فقط. ويحصلون على حاجتهم من الماء، لباقي الطريق، من الجرار التي كانوا قد ملأوها بالمياه، وخزنوها في مكان، يحفظونه عن ظهر قلب.

وعلمت عائلة الشهداء بالتكتيك الذي يطبقه التشاديون للتزود بالماء. فانتظروهم حتى هاجموا الواحة مرة أخرى، وانطلقوا هم إلى الصحراء، سائرين على نفس الدرب الذي أتى منه التشاديون. حتى وصلوا إلى وادي، وجدوا فيه ما يقرب من ثلاثمائة بلاص، مليئة بالمياه. فقاموا بتكسيرها كلها. بحيث لم يجد التشاديون أي مخزون من الماء لدى عودتهم، فهلكوا من العطش، بعد أن نفذ، ما كان قد تبقى معهم من ماء. ومازالت الجرار التي تم تكسيرها موجودة، بحالتها، في نفس المكان الذي عثرت عليها فيه عائلة الشهداء. ويعرف منظموا رحلات السفاري هذا المكان باسم "البلاص". وقد حكى لي أحد اهالي الواحة، أن باحثاً المانياً معروفاً هنا، يدعى "كارلو"، أخبره انه قد عثر على الهياكل العظمية الخاصة بهؤلاء التشاديون في إحدى المناطق الصحراوية، على الدرب المؤدي إلى بلدهم.

تخطيت القلمون، حتى وصلت إلى نقطة يتقاطع فيه الطريق الذي سرت فيه بين القرى، مع الطريق الأصلي القادم من الفرافرة. لأصل إلى موط، بعد نحو خمسة كيلومترات.

دخلت موط، فوجدتها مدينة، ككل المدن. ولا أريد أن اظلمها، فقد رأيتها بعد "القصر" مباشرة. ومن يشاهد القصر وسحرها، ويمكث بها لعدة أيام، يكون من الصعب جداً أن يعجبه اي مكان آخر، بسهولة.

موط لا يمكن وصفها بالمكان الهادئ، ففيها حركة مارة، وسيارات. وفيها اسواق وخدمات أساسية جيدة. لكنها بالتأكيد أكثر هدوءاً من القاهرة، وسائر المدن الكبرى في مصر. والوجوه هنا عادية، لا شئ يعيبها، لكنها ليست بالطيبة والسماحة غير العادية، التي لمستها عند الكثيرين في القصر، والقرى الأخرى، على الطريق المؤدي إلى موط.

تمكنت من شحن الـ USB، وشراء أدوية كانت تنقصني، ولم تكن متوافرة في موط نفسها. لكن الصيدلية أحضرتها لي من أسيوط، كما سحبت بعض النقود من ماكينة الـ ATM. باختصار، أخذت موط مني الهدوء، وراحة البال، ودفء المشاعر الإنسانية التلقائية، ولكنها منحتني خدمات أساسية كنت بحاجة إليها. أتساءل بيني وبين نفسي، هل هناك تعارض بين توافر مثل هذه الخدمات، وبين المحافظة على القيم الأصيلة، والترابط الإنساني، في المجتمعات التقليدية؟

وقد لفت نظري، وجود عدد مبالغ فيه، من الصيدليات، التي أحياناً ما تكون شديدة القرب، من بعضها البعض. كما يوجد عدد كبير جداً من محلات الحلاقة، لا يتناسب مع الكثافة العددية للسكان في المدينة.

زرت موط القديمة، فوجدتها مجموعة من الخرائب. يسكن في عدد قليل من بيوتها ، بعض الفقراء، الوافدين من الصعيد. وأحياناً ما يستخدمها بعض من يعملون بالتجارة منهم لتخزين بضاعتهم. شاهدت هذه الأطلال، مع غروب الشمس، وكانت حالة المدينة سيئة، بحيث كنت أسمع صوت الخفافيش وهي تتحرك، داخل أحد البيوت. سألت أحد المارة من أبناء المكان عن مدى خطورتها على البشر. أخبرني بأنها لا تهاجم اليشر أبداً، لكنها، وفقاً، لقوله، تتغذى على دماء الحيوانات، بما فيها البهائم. لا اعرف سبباً علمياً يجعل الخفاش، ينتقي الحيوان دون الإنسان. لكنني أترك تفسير هذا الكلام، إن صح، لأهل الإختصاص.


عرفت بوجود متحف لتراث الواحة، وأن مفتاحه بحوزة بعض الموجودين عند قصر ثقافة الداخلة. توجهت اليهم فأبدوا قدراً كبيراً من الإهتمام. وقاموا بالإتصال بالموظف المختص، الذي أبدى اعتذاره نتيجة حدوث عطل في الباب الوحيد للمتحف، وهو ما يتطلب يومين لإصلاحه. لم استطع الإنتظار أكثر من ذلك، فما زال أمامي الكثير لأشاهده خلال جولتي حول مصر، بالدراجة.

كان أكبر ما استفدته من إقامتي بموط، هو أنني حظيت بفرصة إستكمال ما أكتبه عن الداخلة، بمدنها وطرقها وقراها. والآن، أستعد للرحيل إلى محطتي التالية...واحة الخارجة.

السبت، 30 نوفمبر 2013

11- رحلة حول مصر بالدراجة- الداخلة- بدو الواحة

الداخلة، مثلها مثل سائر مناطق مصر، لا يقتصر سكانها على المزارعين. بل توجد نسبة من سكانها، تنتمي إلى البدو. وبالرغم من أنهم ليسوا بالأغلبية على الاطلاق، لكن وجودهم ملحوظ، وأثرهم ملموس. وقد التقيت بهم وتحدثت معهم، خلال الأيام التي قضيتها، في قرية القصر.

قبل ثلاثينيات القرن العشرين، لم يكن هناك بدو يعيشون بالداخلة، إذ كان كل سكان الواحة، من المزارعين. لكن في تلك الفترة، حلت قبيلة "الرشايدة" على الواحة. جاءت بأغنامها وجِمالها، لتستقر فيها، وتصبح وطناً جديداً لها. وكان أول ما لفت نظري عند التعامل مع بدو المناطق المحيطة بقرية القصر، هو العلاقة الجيدة التي تربطهم بأهل القرية الأصليين. والاحترام والتقدير المتبادل، والذي يظهر في تعاملاتهم، وكلامهم عن بعضهم البعض. وهي ظاهرة تستحق الدراسة، لأن مثل هذه العلاقة لا تتوافر دائماً، في أماكن اخرى كثيرة، في سائر ربوع مصر. ففي حين تجد بعض الفلاحين، في أماكن أخرى، ينظرون للبدو بارتياب شديد، ويعاملونهم بوصفهم "قطاع طرق". ويبادلهم بعض البدو النظرة المتعالية بمثلها، فتسمع منهم من يقول عن ابنته:"ياكلها التمساح.. ولا ياخدهاش الفلاح". لكنك لا تجد ذلك في واحة الداخلة. فهم، بشكل عام، يعيشون معاً في وئام، واحترام متبادل. تلمح ذلك في أعينهم، كما تراه في تعاملاتهم، مع بعضهم البعض.

حين وصل الرشايدة إلى القصر، وغيرها من قرى الداخلة، لم يكن هناك بدو غيرهم. ولم يؤدي قدومهم إلى صِدام مع السكان الاصليين. فقد كانت الصحراء المحيطة بالقرى جرداء. وكان هناك ما يسمى "بالدولاب"، يُستخدم لاستخراج المياه من الأبار الرومانية. فأستقبل الواحاتية القادمين الجدد. وأستقر الجميع. في الوقت الذي اخذت فيه الرقعة الزراعية، في الاتساع.
والرشايدة أصولهم من الجزيرة العربية، من نجد والمدينة المنورة. وهم ينحدرون من قبيلة "عبس" العربية القديمة. هاجر أجدادهم القدماء من الجزيرة العربية، وذهبوا إلى السودان، ثم نزحوا منها إلى اسوان، فسوهاج، فباريس في واحة الخارجة، وصولاً إلى الداخلة.

وهم ما زالوا محتفظين بعاداتهم الأصلية، التي جاؤوا بها من الجزيرة العربية. فعاداتهم في الأفراح، مثلاً، تختلف اختلافاً كبيراً عن عادات أهل الواحات الأصليين، ففي حين تكون الدعوة للفرح عامة، عند أهل الواحات، وتشمل القرية كلها. لكن لا يمكن للبدوي ان يذهب إلى فرح، لم يتلق الدعوة لحضوره. وفي هذه الأيام، يجلس العريس والعروسة، في الكوشة، في الأفراح الواحاتية. لكن لا يوجد اختلاط بين الرجال والنساء، في الأفراح البدوية. وتحتفل البنات فقط بالعروسة، التي تذهب لبيت زوجها مباشرة، ولا يراها الرجال. ويقوم الشباب بزف العريس حتى بيته، وقت المغرب.

ولدى الرشايدة عادة تسمى "الجَويدة". وهي عبارة عن أضحية، يقدمها المدعوون لصاحب الفرح، الذي يقوم بتجميعها، وذبح الكمية التي تكفي المدعويين. ويحتفظ بالباقي. وهناك لعبة، تسمى "الزريبي". يقف فيها المدعوون في الفرح صفين متقابلين، ويتبارون مع بعضهم البعض، عن طريق القاء الشعر، والقصائد.

وكانت الأفراح البدوية تشمل سباق "الهجن"، الذي تحول الآن لسباق في المشي، أو العدو. ويحظى الفائز بأفضل قطعة لحم، والتي عادة ما تكون الكبد، ثم يذهب بها إلى والدته، ويقدمها لها، وهي جالسة وسط سائر "الحريم".

وللبدو قوانينهم العرفية، حيث يقومون بحل مشاكلهم، عن طريق عقد جلسات عرفية، يحضرها المشايخ. ويتولاها قضاة منهم، معاهم مستشارين. وهم يقومون باصدار الأحكام، وفقاً لشهادات الشهود، وأدلة الثبوت.

ولنضرب مثالاً على ذلك، فإذا ما قام شخص، بسب شخصاً أخر بأمه. أي كال له سباباً، يعد اتهاماً يتعلق بالشرف. فيقوم القاضي أولاً بالتحقق من صحة الواقعة، ومن كون المتهم قد قام بهذا فعلاً. وعند ثبوت التهمة، يقوم القاضي بتخيير المتهم، بين أن يشتري لسانه، أو يتم قطعه. بمعنى ان يدفع لمن تعرض للسباب، مبلغاً من المال، يرتضيه هذا المضرور، أو أن يتعرض لسانه للقطع.
أما لو رفض المتهم اللجوء للقضاء العرفي من الاساس، ولم يقبل الخضوع لأحكامه، تطبق عليه أحكام "القُرعة"، وينطقونها بالجيم، وليس القاف. وهي تقتضي نبذ المتهم من المجتمع، ومنعه من دخول اي بيت، غير بيته. لكن قد تُحل هذه الأزمة، عن طريق ضرب المتهم، بدون أن يتدخل أحد من أهله، لحمايته.

وفي حالة جرائم القتل، يُقتل القاتل وحده، دون غيره. فلا يتعرض أي من اخوته أو اولاد عمومته لأي أذى. كما يمكن للقتل أن يطاله، مهما طال الزمن. أما في حالة القتل الخطأ، فيمكن لأهل القتيل الاكتفاء بالحصول على الدية، إذا ما رضوا بذلك. وهي عادة ما تكون مائة ناقة، أي ما يساوي حوالي مليون جنيه اليوم.

هذه بعض عادات البدو الرشايدة. وهم غالبية البدو في واحة الداخلة. لكن هذا لا يمنع من وجود بعض البدو من قبائل اخرى، كالشرارات، والمطير، والعوازم. وهم إن كانوا اقلية في الداخلة، فلربما يكونوا أكثرية في واحات وأماكن أخرى. كما إنهم قد يتفقوا مع الرشايدة في بعض العادات والتقاليد، ويختلفوا معهم في البعض الآخر.

وقد عرفت من خلال كلامي، مع بعض أهل القرية، من الفلاحين والبدو، أن البدو، لم يستخدموا السلاح، سوى مرتين فقط.

كانت المرة الأولى، خلال فترة الإنهيار الأمني، الذي صاحب قيام ثورة يناير. فقد جاء بعض المسلحين من الصعيد، وإختطفوا بهائم من بعض سكان القرى الأصليين. كما قام بعض تابعيهم بشراء بهائم من بعض الأهالي، الذين سرعان ما أكتشفوا أن النقود مزورة. ولما لم يكن لديهم القدرة على مطاردة المسلحين، لأنهم لا يمتلكون سلاحاً. فقد لجأوا إلى جيرانهم البدو. ونظراً للعلاقة الجيدة، التي تربطهم ببعضهم البعض، فقد قام البدو بمطاردة اللصوص على الطريق، ووسط الجبال، حتى نجحوا في الإيقاع بهم في النهاية، وأستردوا المسروقات.

كما استخدموا السلاح لمرة ثانية، تعرض فيها أهل الواحة للبلطجة من بعض الوافدين المسلحين، فقام البدو بالتصدي لهم ايضاً. وتم حل الأزمة عن طريق القضاء العرفي البدوي.


وأعتقد أن طبيعة أهل الداخلة السمحة، ساهمت في إحتوائهم للبدو الوافدين. وبادلهم البدو ذلك، فعاشوا معاً في سلام. وذلك على الرغم من الإختلاف الكبير بينهم، في الطباع وأسلوب الحياة. ولو إنتبهنا لهذه العلاقة، وحللنا أسبابها، لربما نجحنا في فض الإشتباك، في كثير من المناطق المحتقنة، اليوم، في مصرنا الحبيبة. والتي يتدهور فيها الوضع، نتيجة فهم الشخصية البدوية، بأنها تميل للعنف والجنوح بطبيعتها. في حين توضح تجربة قرية القصر، وغيرها من القرى في الداخلة. أن البدو، مثلهم مثل غيرهم من البشر، يجنحون للحياة الهادئة المستقرة، طالما توافرت لديهم أسباب الاستقرار. وأنهم حين يجدون من يتعامل معهم بإحترام، وإخوة، فإنهم يعاملونه بنفس الطريقة. وحينها، لا يكون الإختلاف سبباً للشقاق والتنابذ، بقدر ما يكون داعياً للتكامل، بين أساليب مختلفة للحياة.

الجمعة، 29 نوفمبر 2013

10- رحلة حول مصر بالدراجة- الداخلة- القصر


تقع قرية القصر، على الطريق المؤدي إلى موط، عاصمة الداخلة. وهي موجودة على الخريطة السياحية، بسبب إحتوائها على مدينة القصر الأثرية الإسلامية. ولولا وجود هذه المدينة الأثرية فيها، لكنت قد مررت عليها من على الطريق الرئيسي، مرور الكرام. ولكانت قد فاتت علي فرصة دخول هذه القرية، التي عشت بين اهلها، ورأيت منهم، وعرفت عنهم، ما جعلني أشعر أنني في بيتي، بحق.

في النصف الأول من الثمانينات، أصبحت القصر الإسلامية، وهي المدينة القديمة الموجودة داخل قرية القصر، والتي ترجع للقرن العاشر الهجري، مدينة أثرية. وبذلك أصبحت تابعة، بشكل او بآخر، لوزارة الآثار. وأصبح من غير المسموح، أن يقوم أصحاب المنازل بإجراء أي تعديل على البيوت، أو داخلها، أو التصرف فيها، بدون موافقة الوزارة. لم ينزح كل أهالي القرية منها، حيث اختار البعض ان يبقوا فيها، ولكن تدريجياً، ومع مرور السنوات، لم يبق فيها إلا عدد محدود جداً من السكان. وبرغم ذلك، فحين سرت في دروبها وحاراتها، شعرت وكأنني اشاهد الصبية يلعبون. وأهل البلد يغدون ويروحون. النساء يتخاطبن من أسطح البيوت، وأصحاب الدكاكين يبيعون السلع التقليدية، ويجلسون أمام دكاكينهم يرحبون بالمارة، بسماحة واضحة، مازالت تميز أبنائهم واحفادهم، من أبناء القرية الحاليين.

حكى لي أحد كبار السن من أبناء القرية. والذي كان قد قضى طفولته وشبابه في المدينة القديمة، كواحد من سكانها، أن أهالي البلدة كانوا يجلسون على أسطح منازلهم، في أمسيات الصيف. ولأن المنازل مبنية قريبة من بعضها البعض، ومتلاصقة، فكان أهالي البيوت الموجودة في أول المدينة، يتمكنون من سماع حديث أهالي البيوت الموجودة في آخرها، مع بعضهم البعض، بوضوح. فالقصر القديمة، وفقاً لتعبيره، كانت مبنية بشكل يجعل كل أهلها يعيشون بشكل متقارب، وكأنهم عائلة واحدة. وهو ما كانوا يشعرون به، بالفعل. وهو يتأمل في كون أجداهم قد بنوا القرية باستخدام الطوب اللبن، وليس الحجر. مع ان الحجارة قريبة ومتاحة، في الجبل. فيعبر عن تصوره بأنهم قد فعلوا ذلك، نظراً لأن الطين قريب جداً من الإنسان، بحيث يشعر بأنه قريب منه، يشبهه، وكأن هناك صلة قرابة بين ساكن البيت، وجدرانه. ويقول بتأثر، مؤكداً على كلامه، أن جدران الكثير من البيوت، قد بدأت في التشقق، بعد أن هجرها سكانها، وذلك على الرغم من عدم وجود اي مياه جوفية في المنطقة المحيطة بالمدينة. وهو ما لا يجعل هناك اي سبب مادي، وفقاً لتعبيره، يؤدي إلى تشقق الجدران. يفسر هو ذلك بأنه شكل من اشكال تعبير الجدران عن حزنها، على فراق ساكنيها.

وكان سكان المدينة يحصلون على الماء عن طريق"السقا". كما تحتوي المدينة على نظام تبريد فعال للغاية. ففي الوقت الذي قد تكون فيه درجة الحرارة مرتفعة جداً بالخارج، ينعم من يسير في طرقات المدينة، بدرجة حرارة معتدلة جداً، ونسمات عليلة.

والمباني المكونة من طابقين، أو ثلاثة، مصممة بشكل يجعل درجة الحرارة داخل المدينة، أقل بكثير عنها خارجها. فأغلب الشوارع مسقوفة. وتوجد فيها فتحات. ويتم تصميم الفتحة بحيث تقع بين حائطين في سقف أحد دروب المدينة. ويكون الحائط القبلي أطول من الحائط البحري. بحيث يصطدم الهواء الآتي من الجهة البحرية بالحائط القبلي، فينزلق إلى اسفل، مُحدثاً تيارات هوائية، تجعل من يسير في طرقات المدينه يشعر بها وكأنها مكيفة.

وهناك أعتاب خشبية تعلو ابواب البيوت، مكتوب عليها اسم صاحب الدار، وبانيها، وتاريخ انشائها. وقد سميت دروب المدينة وحاراتها، بأسماء قاطنيها، مثل حارة القرشيين والجزارين، والحبانية. وكل لكل منها باب، يتم اغلاقه، لحماية السكان.

وهناك مسجد، بسيط لكن بديع، به ضريح للشيخ نصر الدين، الذي يعرف المسجد نفسه باسمه. ويبلغ ارتفاع المأذنة، حوالي 21 متر. وهي ترجع للعصر العثماني، لكنها تتبع نمط المآذن في العصر الأيوبي.

كما توجد بناية كبيرة من طابقين مشيدة بالطوب اللبن. يُعتقد أنها كانت مدرسة. حيث شيدت على طراز المدارس الاسلامية القديمة، ذات الإيوان الواحد. و من المحتمل أيضاً، أنها كانت إحدى قاعات بيت الضيافة، الملحقة بالقصور العثمانية. ويعرف المبنى حالياً باسم المحكمة، نظراً لأنه استخدم كمحكمة، فيما بعد. وبه مكان للقاضي، وغرفتين كان يتم استخدامهما كسجن للمجرمين. وهو يحتوي على مكتبة للكتب القديمة. وقد استخدم بعد ذلك كمدرسة لتعليم القرآن للأولاد.

سرت، حتى وصلت لمنطقة في وسط المدينة، في حارة عائلة خلف الله، وجدت فيها عصارة للزيتون، كانت تستخدم لاستخراج الزيت. وهي تعد من أهم العمائر المستخدمة في الحياة اليومية بالمدينة. وتتكون من جزئين، آلة لجرش الزيتون، وأخرى لعصره.

ويتذكر عبد الرازق، موظف الآثار الذي اصطحبني خلال جولتي بالمدينة، طفولته وصباه بالمدينة. ويقول أنه بعد أن أصبحت المدينة على قوة وزارة الآثار، بدأ الناس تدريجياً في مغادرتها، وبخاصة بعد أن ضاقت بهم البيوت، مع زيادة عددهم. وسكنوا في رحاب قرية القصر.

وتحتوي القصر ،مثلها مثل سائر قرى الداخلة، على حقول للقمح والشعير والأرز والنخيل، وغيرها من الزراعات، التي تحيط بالقرية، بشكل فائق الروعة. وفي الماضي،كانوا الزراعة تتم بدون كيماويات، وباستخدام الأسمدة الطبيعية فقط. وهو ما كان له بالغ الأثر على صحة الناس، وتمتعهم بالقوة الجسدية. أما الآن، فقد تغير الوضع، بسبب استخدام الكيماويات في الزراعة.

وشكا لي أحد الأهالي من صعف المستوى الطبي بمستشفى القرية. حيث يتم ارسال الأطباء حديثوا التخرج للعمل بها. مما يعرضهم للتعامل مع حالات تتطلب خبرة، لا تتوافر لديهم. فلا يكون امامهم سوى إحالة الحالة لمستشفى موط، وهي لا تختلف كثيراً عن مستشفى القصر، وفقاً لكلامه. أما الوضع الأمثل، فهو أن تتم إحالة الحالة لمستشفى أسيوط، بحيث يحظى المريض بفرصة ركوب سيارة الاسعاف، التي تتوافر بها اجهزة وخدمات طبية متقدمة، ربما لا تكون متاحة في مستشفى القصر، أو حتى في موط.
وسمعت قصة طريفة عن دخول الراديو لقرية القصر، منذ زمن بعيد. ففي البداية، دخل الراديو بيتين فقط من بيوت القرية، ولم يكن بالقرية كهرباء من الأساس. فكان على صاحب الراديو العثور على طريقة لشحنه، كي يتمكن أهل القرية من الاستماع اليه، حين يتجمعون في الساحة أمام داره، في المساء. وضع الرجل ما يشبه البطارية، التي يتم شحنها عن طريق دينامو، يعمل من خلال إسطوانة يدوية (تسمى بالدولاب). فكان الأطفال يعودون من المدرسة، ليتبادلوا العمل، بهمة ونشاط، على تدوير هذا الدولاب، كي يتم شحن البطارية. بحيث يتمكنون من الاستماع إلي الراديو مع الكبار، في المساء، إذا ما لم يغلبهم النوم، قبل ذلك.

والأعياد، عند اهل القرية، لها إحتفالات تقليدية خاصة، إذ يخرج اهل القرية، ويتم قرع الطبول، والتوجه لزيارة القبور، واضرحة الأولياء. وقد كانت الأعياد تعد بمثابة موسم للأفراح، التي كانت تستمر لمدة ثلاثة أيام، كما كان يستخدم فيها المزمار، والطبل البلدي. والأفراح هناك تكون الدعوة فيها عامة، تشمل اهل البلد كلهم.

ويقال أن "القرشية"، الذين تعود أصولهم إلى الجزيرة العربية، كانوا أول من وفد على القرية، مع وصول القبائل العربية، لهذه المنطقة. وتنتسب اليهم، الكثير من عائلات القرية، مثل عائلة كساب، والعمد، وحمد وخلف الله، وغيرها. كما يحكى أن هذه المنطقة لم يكن فيها سوى عدد قليل للغاية من السكان، لدى وصول اجدادهم القدماء للقرية، لم. وقد قاموا ببناء المدينة القديمة، على أنقاض معبد فرعوني قديم.

وقد حكى لي أحد شباب القرية عن أسطورة، يتحاكاها البعض، في القرية والمناطق المحيطة بها، تحكي عن كنز مرصود، في منطقة تسمى بـ "عين الحجر". الكنز مكون من آثار فرعونية، مخبؤة في هذه المنطقة، ولا يمكن لأي شخص العثور عليها، مهما حاول. ولكن، في لحظة معينة، ومع شخص معين، تنشق الارض عن هذا الكنز، وتظهره لهذا الشخص، الذي لا يسعى للعثور على الكنز، وإنما يكون سائراً وهو شارد الذهن، ليفاجأ بالأرض تنشق امامه، وتقوده إلى سرداب يقوده إلى معبد دير الحجر. ليأخذ "إللي فيه النصيب" من آثار ويمضي.

قد تبدو هذه الأسطورة سخيفة، بالنسبة لكثير من سكان المدن الكبرى. لكنها في الحقيقة لا تختلف كثيراً عن أسطورة إرسال رسالة بجنيه من على تليفونك المحمول، لتفوز بمليون جنيه، تهطل عليك من السماء، بدون عناء. ولا تتمثل القضية، بالنسبة لي، في إذا ما كان هناك ثمة إحتمال ان تفوز بمليون جنيه في المسابقة، أو إذا ما كان هناك كنزا خفي من عدمه. لكن ما يسترعي إنتباهي، هو أنه يبدو ان "الاسطورتين" تجمع بينهما نفس الحاجة النفسية البشرية، للعثور على حل يخرق المسار الطبيعي للأمور، ويمنحنا "الخلاص" من مشاكلنا الحياتية، بأسرع وقت ممكن. أشعر أننا، بذلك، ننسى أن رحلة الحياة نفسها، بكل ما فيها من سراء وضراء، هي المقصودة. لاننا نتعلم ونتطور من خلال كل ما نجابهه في هذا الحياة. والحلول السريعة، قد توفر علينا الكثير من المشاكل، لكنها تحرمنا من التعلم، والاستفادة، من تجاربنا الحياتية.

ويتسم مجتمع القرية بالترابط، فما ان يتعرض أحد أبنائها، أو بناتها، لإعتداء من خارج القرية، حتى تهب القرية كلها لنجدته.  وقد لمست درجة كبيرة من الطيبة والسماحة والكرم، سواءمن خلال تعاملات سكان القرية مع بعضهم البعض، أو مع الغرباء، أمثالي.

والقصر، مثلها مثل كل القرى المحيطة بها، لها لهجتها الخاصة، التي لا تخطئها أذن أهل الداخلة الأصليين. فالواحد منهم بإمكانه أن يعرف من أي قرية انت، بمجرد سماع حديثك. وقد استطاع أهل القصر الحفاظ على عاداتهم، إلى حد بعيد، في مواجهة تقلبات الزمن. ولربما ساعد على ذلك أن القرية لم يسكنها وافدون من الخارج، إلا قليلاً جداً. لكن في المقابل، غادر عدد كبير جداً من أهل القرية، إلى خارجها، بحثاً عن لقمة العيش. ويتركز معظمهم في الكويت، وحي دار السلام، بالقاهرة.
القصر مكان غير عادي، دخلتها لأقضي فيها ساعتين، أو ثلاثة، وأرحل. فقضيت بها عدة أيام. ولولا أننني كان يجب علي أن أرحل، كي أستكمل رحلتي حول مصر بالدراجة، لما فارقتها، بهذه السرعة، أبداً. لقد دخلت هذه القرية وحيداً، لا أعرف فيها أحداً. فخرجت منها، بعد عدة أيام، وقد أصبح لي فيها أصدقاء، يعاملونني كأخ لهم، وأعتبرهم إخوتي.

إن كان هناك مكان قد أحببته منذ إنطلقت بدراجتي من القاهرة، في الأول من نوفمبر؛ فهذا المكان هو " القصر".



الأربعاء، 27 نوفمبر 2013

9- رحلة حول مصر بالدراجة- الداخلة- المعبد والمقبرة الرومانية

أستيقظت، حيث خيمت، على الطريق المؤدي إلى موط، عاصمة واحة الداخلة، وحزمت أمتعتي، لأنطلق بدراجتي. مررت على حقول جميلة، ومزارع بديعة لها ابواب بدائية الصنع، لكنها في غاية الذوق والجمال، بعض أجزاء الطريق محفوفة بالأشجار من الجانبين، وبعضها تحيط به تجمعات مائية، فيما يشبه الجداول الصغيرة. تليها أراضي غير مزروعة وما زالت بكراً، تنتظر من يزرعها. السير بالدراجة هنا، منعش للغاية.

أصل إلى لافتة على الطريق تشير إلى طريق آخر جانبي، يفضي إلى "معبد دير الحجر". أسير فيه، عابراً قريتين، وأخرج إلى مساحة صغيرة، غير ممهدة. تفضي إلى طريق يبدو عليه أنه كان ممهداً، لكن كسته الرمال. أقابل رجلاً على موتوسيكل قادم من الجهة المقابلة. أسأله على دير الحجر، فيستدير ليقودني إلى المعبد. يترك هو دراجته البخارية في الخارج، كما أترك أنا دراجتي الهوائية، وندخل معاً. ينادي  الرجل على حارس المعبد، عادل، الذي يصر على أن أجلس، كي أشرب كوباً من الشاي، قبل أن يصحبني معه، في جولة بالمكان.

يقع المعبد قبل مدينة (القصر) الإسلامية بنحو 15 كم . وقد شيد بالحجر الرملى فى العصر الرومانى، في عهد الإمبراطور نيرون. وكرس لعبادة آمون رع, و كان يعرف باسم (ست إعح) أى (مكان القمر). المعبد محاط بسور، وبداخلة اعمدة، كما يحتوي على قدس للأقداس، تم تشييده في فترة لاحقة، وفى عهد امبراطور آخر، هو دومتيان.

المعبد، وإن كان قد شيد في العهد الروماني، لكن عناصره المعمارية مماثلة  للمعابد المصرية في عهد الدولة الحديثة (الأسرة 18). وهو ما يشي بإمتداد تاثير الثقافة المصرية القديمة، حتى العهد الروماني. لدرجة أن جدرانه مزدانة بمناظر تمثل العديد من الأباطرة الرومان، وكل منهم يتعبد للآلهة المصرية القديمة، أو يقدم لها القرابين. عجيبة هي قدرة المصريين على إحتواء الثقافات الأخرى الوافدة عليهم، بما فيها ثقافات الغزاة.

وقد قامت إحدى البعثات بكشف الرمال عن معبد دير الحجر. فقد كان معظمه مردوماً، فيما عدا بعض العمدان المرتفعة، التي قامت بعثة أثرية ألمانية، سنة 1899، بكتابة أسماء أعضائها فوق أحدها، قبل إزاحة الرمال عن المعبد. كما قام حكمدار  أسيوط بكتابة اسمه هو الآخر، على أحد الجدران. بالإضافة إلى شخص أخر كتب اسمه، وأرخه بسنة 1922. ويبدو أن عادة تشويه الآثار عن طريق كتابة الناس لاسمائهم عليها، لا تقتصر على شريحة من المصريين فقط، بل تتخطاهم إلى بعض الأجانب، بما فيهم من يعملون في التنقيب على الآثار منهم. كما لا يبدو أن المنصب الرسمي لذلك الحكمدار، ومستوى التعليم المرتفع الذي ينبغي أن يكون قد حصل عليه، قد حالا دون ممارسته لتلك العادة الذميمة... لك الله يا مصر.

خرجت من المعبد، لألتقي بـ"اليساندرو"، رجل إيطالي بصحبة زوجته، أو صديقته، لا اعرف. أبدى إهتماماً كبيراً بالدراجة، وسألني من أين جئت؟ حكيت له عن رحلتي، وإهتم بتسجيل اسم مدونتي، كي يحكي لأصدقائه المصريين عنها. تصافحنا، وتحركت بدراجتي، على نفس الطريق الذي جئت منه، متفكراً فيما رأيته في المعبد.

 نظرت أمامي، فوجدت صبية مليحة في نحو الثامنة عشر أو العشرين، تمر أمامي مسرعة. لمحتني، فأشاحت بوجهها لثوانِ، ثم نظرت ناحيتي بقدر من الحياء، لكن بثبات. وتغيرت خطواتها، فأصبحت تمشي على مهل. ابتسمت بيني وبين نفسي، فقد كان المشهد شديد الشبه بروايات نجيب محفوظ، التي تصور الحياة في القاهرة القديمة. أشحت بوجهي، وأكملت طريقي وأنا افكر في زوجتي الحبيبة، وأولادي الصغار، لقد إشتقت اليهم كثيراً. فقد تركتهم في القاهرة، منذ ثلاثة أسابيع كاملة.

مررت على قرية "الموهوب"، و لهذا الاسم قصة. إذ حكى لي أحد سكانها، والعهدة على الراوي، أن اسم القرية يعود إلى رجل ظالم، حكم القرية. فقد جاء "أحمد الموهوب" إلى هنا، من ليبيا، مع مجموعة من الناس، هرباً من الحرب بين الطليان، وعمر المختار. وتغلب هو ومن معه على أهل المكان الأصليين، الذين كانوا اقل عدداً، وحكموهم عنوة، لفترة من الزمن.

وصلت إلى مقابر المزوقة، التي تبعد مسافة بسيطة عن الطريق الرئيسي المؤدي إلى قرية القصر. وهي تعود إلى القرن الأول الميلادي، أي إلى العصر الرومانى. المقابر محفورة فى الصخر, وجدرانها مغطاة بطبقة من الجص. وقد لفت نظري نقطة تشابه واضحة بينها، بين ومعبد دير الحجر. فكل الرسومات التي تغطي جدران حجرات الدفن فرعونية، فيما عدا جدار واحد فقط، تكسوه رسومات ذات طابع روماني واضح.

التقيت بـ"اليساندرو" ورفيقته مرة أخرى. وقفنا معاً لنشاهد بئر روماني قديم، جفت مياهه. كا شاهدنا المقابر المتناثرة وسط الصخور. كان معهم مرشد سياحي، أخبرني أن الرومان كانوا يبنون جباناتهم في أماكن مرتفعة، على العكس من المصريون القدماء، الذين كانت مقابرهم دائماً تحت مستوى الأرض. أخذ اليساندرو يستفهم مني عما احمله من ماء على الطريق، أثناء سفري بالدراجة. شرحت له أنني أحمل معي حوالي 4 لترات من الماء، وقبل نفاذهم، أتزود من الشاحنات وسيارات النصف نقل التي على الطريق.

كانت هناك مجموعة من الموظفين المصريين يقومون بترميم حجرات الدفن. شاهدتهم وهم يعملون، وعرفت منهم أنهم لا يقومون باصلاح ما افسده الزمن من صور ورسومات. وإنما يقتصر عملهم على استخدام بعض المواد للحفاظ على ما هو قائم بالفعل.

ودعت اليساندرو، وسرت حتى وصلت إلى قرية القصر، ناوياً مشاهدة المدينة العربية الإسلامية القديمة هناك، ثم المغادرة كي أقضي ليلتي في "موط" مركز الواحة، والتي تبعد نحو 35 كم عن القصر. لكنني وجدت في القصر ما يدعوني للبقاء أكثر من ذلك، فبقيت بها لعدة أيام.


الاثنين، 25 نوفمبر 2013

8- رحلة حول مصر بالدراجة- الطريق إلى الداخلة

كانت الساعة قد تخطت الواحدة ظهراً حين تحركت بدراجتي من الفرافرة، متجهاً إلى الواحة الداخلة. سرت على الطريق الذي يشق الصحراء، ملاحظاً أن أغلب المركبات المارة من جواري هي موتوسيكلات. وبعد فترة، بدأت القرى في الظهور، وأخذت الصحراء من حولي تتحول، فجأة، إلى حقول عامرة بالزراعات، ترعى فيها المواشي، ويتحرك فيها الفلاحون ممتطين حميرهم، في حركة دائبة، لكنها هادئة، ومريحة للأعصاب. فيما يشبه قرى الدلتا، لكن في الأفلام العربية القديمة. مشهد انتهى في الأفلام، وفي الواقع، مع سبعينيات القرن الماضي.

بعض القري تحمل أرقام، مثل 13 و"17"، وغيرها، وبعضها يحمل أسماء مثل "الكفاح"،. ظللت أسير بالدراجة، والقرى تبدأ من حولي، لأعبر مركزها الرئيسي بما فيه من محلات تقدم بعض الخدمات الأساسية، كاصلاح الكاوتش، والقهاوي، وغيرها. ثم أصل لأطراف القرية، فإما أن تبدأ قرية أخرى في الظهور بعدها مباشرة، أو أجد نفسي محاطاً مرة أخرى بالصحراء، حتى أصل إلى القرية التالية، وهكذا.

وفي المعتاد، لا أحبذ التخييم في منطقة قريبة من القرى والمزارع. وذلك لأنني أترك دراجتي خارج الخيمة، نظراً لعدم وجود متسع لها بالداخل. ومع أنني اقوم بربط العجلة بحبل يمتد داخل الخيمة، أعقد طرفه الآخر في أكثر حقائبي وزناً، بحيث يصدر الاحتكاك بين الحبل والحقيبة صوتاً يوقظني من نومي، إذا ما تعرضت العجلة لأي محاولة سرقة، لا قدر الله. لكن على الرغم من ذلك فلا أشعر بالإرتياح لفكرة التخييم بالقرب من منطقة آهلة بالسكان، تاركاً دراجتي وحدها خارج الخيمة.

كان الوقت يمر، ولا بد من أن استقر على مكان للتخييم، قبل حلول المغرب. ما زال امامي بعض الوقت، لكن الأمر لم يكن مبشراً، فالمسافات بين القرى ضيقة، لاتكفي للتخييم. ولا ينبغي أن يهبط الظلام، وانا على الطريق.  ظللت أسير بالدراجة بين القرى، منتظراً الوصول لمنطقة صحراوية بعيدة عن العمران، لكنها لم تجئ.

وقفت عند قرية اسمها "أبو هريرة" لأشرب بعض الماء، وأسال عن فندق قريب. وبطبيعة الحال، لم يكن يوجد أي فندق هناك. وبينما كنت أستعد للخروج  إلى الطريق الرئيسي مرة أخرى، فوجئت بثلاثة شباب معهم موتوسيكل، يستوقفونني ليسألونني عن الدراجة، وعن المسافة التي قطعتها. أتعرض لمثل هذا الموقف كثيراً، لكن هذه المرة كان يبدو عليهم الاهتمام الشديد، والالحاح في الأسئلة. اعتذرت لهم عن الاجابة على المزيد من الأسئلة، وتحركت بسرعة. مشيت قليلاً أفكر أين سأبيت...سمعت صوت موتوسيكل يقترب مني، نظرت لأجدهم نفس الشباب الذين فارقتهم من لحظات، يتابعونني على الطريق كي يطمأنوا أن "كله تمام". سألتهم عن المسافة المتبقية كي أصل للخلاء بعيداً عن القرى المتتابعة، استفهموا عن السبب، ولما عرفوه، أصروا بالحاح شديد أن أبيت معهم تلك الليلة. القيت عليهم نظرة متفحصة، سألني أحدهم أكثر من مرة عن ثمن العجلة. فقد كان معجباً بها، ويريد شراء مثلها. لكن المبالغة في السؤال عن ثمن الدراجة من شخص تبدو ملامحه غير ودودة، وتعبيراته جافة، كان أمراً مثيراً للقلق. وعلى الرغم من ذلك، فقد شعرت بارتياح لقبول دعوتهم، وتوكلت على الله. وذهبت معهم.

هم مجموعة من الشباب، تتراوح أعمارهم حول العشرين. نزح كل منهم مع أهله من الصعيد، إلى هذه القرية في الداخلة. شعبان، صاحب البيت، شاب من سوهاج. يعيش وحده في هذا البيت الذي ما زال على الطوب الأحمر. وهو يعمل على اعداده، خطوة خطوة، كي يتزوج فيه. شعبان ترك المدرسة بعد الصف الثاني الإعدادي.

معتز، الذي ما أنفك يسألني عن سعر العجلة، وفد مع أسرته من أسيوط. هو  يشبه صديق لي من أسيوط أيضاً، لكن صديقي طيب القلب، ويتحلى بشخصية مختلفة تماماً. أما معتز فيعطيك انطباعاً بجاهزيته لأطلاق النار في أي وقت. يصلح لتجسيد دور الصعيدي الخطر، ذو القلب الميت، الذي قد يفتك بأعدائه دون أن تهتز له شعرة، أو هو يحب أن يبدو كذلك. في حين يصلح شعبان لتجسيد دور الشاب الصعيدي الطيب الجدع. لكن في الحقيقة، كلاهما "جدع"، كل بطريقته.

حكوا لي عن مجتمع القرية، والتي يشكل الوافدون معظم سكانها. ولأنهم كانوا شباباً صغاراً، فقد كانت معظم قصصهم  تدور حول المشاجرات بين الصعايدة والفلاحين، والتي قد تحدث من آن إلى آخر. وعن تضامن الصعايدة، وهم أقلية، في مواجهة الفلاحين، وهم الأكثرية. كما أخبرونني بأن كثير ممن يجيئون من الصعيد إلى هنا، يأتون هاربين. فهم إما مطلوبين للثأر، أو مطالبين بالأخذ به. لم يبد هذا الكلام مقنعاً بالنسبة لي. فبالتأكيد هناك اسباب أخرى كثيرة تدفع الناس للمجئ لهذا المكان، الملئ بالخيرات وفرص الحياة. لكن في نفس الوقت، بدا لي من الواضح أن الناس حين انتقلوا من الصعيد والوجه البحري إلى هنا، حملوا معهم مشاكلهم وأمراضهم المجتمعية. وعلى الرغم من ذلك، فقد خففت طبيعة المكان الرحبة، ووفرة الخير، من مجالات التنازع بين الناس.

تحدثنا عن عدم وجود شبكات محمول تغطي القرية، بحيث يضطر من يرغب في استخدام المحمول لصعود خزان ماء مرتفع، أو الخروج من القرية على مسافة  نحو الكيلومترين، حتى يمكن للشبكة أن تكون متاحة. قلت لهم أن الوجه الإيجابي الوحيد لهذا الوضع هو عدم تأثر سكان القرية ببعض المؤثرات السلبية التي قد تحملها لهم الانترنت، إذا أسئ استخدامها. قالوا أن هذه المؤثرات موجودة بالفعل عن طريق قيام بعض الشباب باستخدام التليفونات المحمولة عند الخزان أو خارج القرية، للاتصال بالانترنت. وبطبيعة الحال لا يستفيدون منها في أكتساب اي علوم أو معارف. شعرت أن بلدنا بحاجة فعلاً إلى مشروع قومي يستوعب طاقات الشباب، أينما كانوا.

جاءت مجموعة أخرى من أصدقائهم، جلسوا جميعاً يستمعون لقصيدة لهشام الجخ، تحكي عن شاب صعيدي يحب فتاة. أستمعوا اليها باهتمام شديد. مع أنهم بالتأكيد قد أستمعوا البها كثيراً من قبل. ظلوا جالسين يتسامرون، وبمجرد ان بدت مني أدنى لافتة تشير إلى شعوري بالنعاس، قاموا جميعاً في لحظة واحدة، وأستأذنوا للانصراف.

 نمت ، لكن بعد أن خضت بعض المعارك مع الناموس، فالناموس هنا يمكنك وصفه بالتوحش، وضميرك مستريح. حيث يهاجمك بمنتهى الشراسة، لكنني انتصرت عليه في في النهاية، ونمت جيداً.
صحوت، وتحركت مبكراً، حيث لم أكن بحاجة إلى حزم أمتعتي، التي لم أكن قد فككتها أصلاً بالأمس. انطلقت على الطريق، بعد أن ودعت شعبان، وشكرته.

سرت قليلاً بالدراجة، وعاد الطريق صحراوياً. واجهتني رياح جانبية مُلحة.  وهو ما دفعني إلى بذل الكثير من الجهد كي أتحرك، وتسبب في خفض سرعتي. يواجهني مطلع صعب، يتلوه منحدر طويل. جوانب الطريق بالغة الضيق، أو غير موجودة أصلاً في بعض الأحيان. وهو ما يجبرني على السير في المجرى الرئيسي للطريق. قد تمر عليك ساعة كاملة، لا يمر فيها بجوارك أكثر من سيارة واحدة، غالباً ما تكون نقل، أو نصف نقل. وبالتالي فلا توجد مشكلة في عدم وجود حارة جانبية. لكن لو زادت الكثافة المرورية على هذا الطريق في المستقبل، فلا بد من توسعة جوانبه.

أقابل رجلاً على موتوسيكل. أستوقفه كي أسأله عن أبو "منقار"، القرية التالية. أجده يغطي وجهه بما يشبه اللثام الخفيف، كي يحميه من الرمال. يسألني  إذا ما كنت مصرياً، ومن أين مكان في مصر؟ أجيبه انني قاهري من المعادي، يصدق بصعوبة انني لست بأجنبي. أساله إذا ما كان "عرباوياً"، فيوكد ذلك، نتبادل التحية، ويستمر كل منا في طريقه.

أصل إلى أبو منقار، التي تبعد نحو 100 كم عن الفرافرة، وتعتبر آخر قرية على هذا الطريق، تتبع إدارياً مركز الفرافرة. يستقبلني كمين حرس حدود. لا يصدقون أنني مصري، إلا حين يرون بطاقتي. يرحبون بي، ويتعجبون من رحلتي حول مصر بالدراجة. أتناول غداء خفيف في كافيتيريا قريبة. أفتح تليفوني المحمول وأكلم أسرتي، كي يطمئنوا علي، ثم أعيد غلق المحمول، حتى لا تنفذ البطارية. لا افتحه بشكل طبيعي إلا حين يتوافر لدي مصدر كهربائي ثابت، وهو ما لا يتوافر إلا حين أصل للواحة التالية.

تركت أبو منقار، وتغيرت اتجاهات الطريق، بحيث لم تعد الرياح تهب ضدي. تمكنت من قطع 120 كم في ذلك اليوم، معوضاً قصر المسافة التي قطعتها في اليوم السابق، بسبب تاخري في مغادرة الفرافرة.

أخيم قبل المغرب، كعادتي، وأقف بجوار الخيمة أشاهد الغروب، ما أبدعه، وما أجمل الصحراء. يبدأ الظلام في الحلول، أقف للصلاة مستشعراً السكون من حولي. أتخيل انني، وكل من يقرأ هذه الكلمات، نقف جميعاً متناثرين في هذ المكان. نصلي معاً، كل على طريقته، وبحسب دينه. طالبين، وداعين، من قلوبنا، أن يملأ الله بلدنا بالنور والسكينة والرحمة، وأن يحل عليها السلام.

أنهيت صلاة المغرب، وجمعت معها العشاء، لأنني على سفر. ثم دخلت خيمتي، لأغط في سبات عميق. كانت الرياح تهب بقوة بالغة طوال الليل،حتى أنني صحوت لاكثر من مرة على صوت ارتطامها بالخيمة بشدة. بدأت اليوم التالي، وأنا لم احصل على قسط كافي من النوم بسبب ذلك. كما كانت الرياح على الطريق جانبية، بعكس الأمس. بحيث ظلت تهب بقوة من جهة اليسار، معطلة أياي، وذلك على خلاف توقعاتي.

أقابل كميناً آخر لحرس الحدود، أصل اليه بينما الجندي يمد يده ليضع كوباً من الشاي إلى جواره. أناديه:"السلام عليكم"، ينظر إلى، ثم يشير لي من بعيد أن أنتظر. لا أعرف إذا ما كان قد سمع ما قلته بالعربية أم لا. يغيب، ثم يظهر بعد عدة دقائق وفي يده دفتر. أعرف بذلك أنه لم يسمعني، فأضحك واقول له "مصري..مصري..مش حتحتاج الدفتر"، فالدفتر يتم فيه تسجيل أسماء السياح الأجانب فقط.

 يبتسم ويقول "ما أنا برضه كنت شاكك إنك مصري، اصلي ما كنتش سامعك كويس". أجده في غاية الذوق والبشاشة. يصر على دعوتي لشرب الشاي الذي كان قد أعده لنفسه، أستجيب بعد الحاح من جانبه، واجلس مستمتعاً بمذاق الشاي بعد عناء الطريق. أسأله إذا ما كانت قد مرت عليهم عائلة فرنسية تسافر باستخدام بالدراجات. كنت قد قابلتهم على الطريق بين القاهرة والواحات البحرية، وتفرقت بنا السبل، آملين أن نلتقي مرة اخرى، وهو ما لم يحدث حتى الآن. أخبرني بأنهم قد مروا به فعلاً ، لكن من عدة أيام. أرشف أخر قطرة من كوب الشاي، وأشكر الجندي البشوش، وأكمل طريقي.

أستمر في السير على الطريق بدراجتي، ومن حولي الصحراء. فجأة تظهر مساحات خضراء، زاهية، ومليئة بالشجر والأبقار والثمار. أسمع اصوات الدواجن، وأشاهد الفلاحين بجلاليبهم يعملون في حقولهم بهمة ونشاط، وبساطة وهدوء. وتداعب انفي رائحة البساتين المليئة بمختلف أنواع المزروعات. وكما بدأت المساحات الخضراء فجأة، تنتهي فجأة. لأجد الصحراء تحيطني مرة اخرى. لتظهر مساحات خضراء مرة اخرى، بعد قليل، أو كثير، وهكذا.

أصل إلى قرية "غرب موهوب"، التي ينطقها بعض الناس هنا "ميهوب". وهي قرية نسبة كبيرة من سكانها بدو، من قبيلة الرشايدة، مثلها في ذلك مثل "أبو منقار"، التي مررت بها في اليوم السابق. سرت، حتى وصلت إلى نقطة لم يكن الطريق فيها ممهداً. كان (مدقاً)، إمتد لعدة كيلومترات. وتسبب في تأخيري، حيث كنت أرغب في العثور على مكان بعيد عن العمران، كي أخيم فيه. باقي على المغرب نصف ساعة، ولم اجد مكاناً ملائماً بعد. إذ أن كل مكان خالٍ، توجد بعده مزرعة، أو أي شئ أخر. لكن لا توجد صحراء خالية قريبة، تصلح للتخييم.

بدأت أفكر في قضاء ليلتي في أحد المساجد، سألت فعرفت أن هناك مسجداً بعد عدة كيلومترات، تحركت باسرع ما يمكن، فلا اريد أن يحل الظلام على وأنا على الطريق. وصلت الى المسجد، لكنني وجدته داخل مزرعة خالية من السكان، ناديت، لكن أحداً لم يكن هناك. نظرت للأرض المجاورة، فوجدتها عبارة عن موقع لإحدى شركات الإنشاءات الحكومية الكبرى. توجهت اليهم بسرعة، وسألتهم عن أقرب مسجد، فأشاروا لمبنى تابع لهم يقع خلفي. وعندما سألتهم إذا ما كان يمكنني المبيت فيه، إعتذروا بسبب المسئولية، ولكنهم عرضوا علي وضع دراجتي على سيارة نصف نقل تابعة لهم، على وشك التحرك، ومتجهة إلى قرية القصر، التي يوجد بها فنادق. بطبيعة الحال، شكرتهم، ورفضت عرضهم الكريم. وهم من جانبهم لم يفهموا لماذا أصر على السير بدراجتي، في حين كان بامكاني قبول عرضهم، وتوفير الجهد. لم يكن هناك متسع من الوقت لكي أشرح لهم فكرة رحلتي حول مصر، وانني قررت أن تكون رحلتي كلها بالدراجة. تركتهم وتحركت بسرعة منطلقاً على الطريق، إذ لم يبق على المغرب أكثر من عشرة دقائق. فكرت بيني وبين نفسي: "لماذا أصر على العثور على مكان أبيت فيه، بينما معي خيمتي...لست بحاجة لأحد.... الله الغني".

طوال سفري على الطريق، أبيت بداخل خيمتي، اعتدت على النوم فيها بحيث أصبحت مثل داري، أو حجرتي. لدرجة أنني قد أصبح لي نظام معين بداخلها لتوزيع اماكن الشنط والمتاع التي أصحبها معي على الدراجة. فلماذا إذن أستوحش المبيت في الخيمة؟ هل مجرد خوفي من ترك العجلة خارج الخيمة أثناء الليل، في مكان قريب من العمران، حتى لا تتعرض للسرقة،  يصبح سبباً لأن أشعر بالضياع هكذا، كما أفعل الآن. راجعت نفسي بسرعة، وحسمت أمري، وقررت العثور، فوراً، على أفضل مكان يتوافر به الحد الأدنى من المقومات اللازمة، والتخييم به.

توقفت عند الجهة المقابلة لأرض واسعة تقع بين مزرعتين. حركت دراجتي بسرعة، بحيث ابتعد عن الطريق قليلاً. بدأت أفك أمتعتي بسرعة قصوى، وصدى آذان المغرب يتردد في أذني، قادماً من بعيد. عادة ما أستغرق بعض الوقت كي أحل بعض الأربطة التي أقوم بتثبيت الكاوتش الاستبن من خلالها، عن طريق العديد من العقد. قطعت بعض الأربطة بسرعة باستخدام الـ Swiss knife. وحللت الباقين بسرعة بالغة. وفي وقت قياسي كنت قد حللت الامتعة، ونصبت خيمتي، وأدخلت كل شئ بداخلها، فيما عدا العجلة، بطبيعة الحال.

حل علي الظلام، وأنا في الخيمة. كان تخلصي من الإحساس بضرورة المبيت في مكان محاط بأربعة جدران، كنوع من أنواع الحماية لدراجتي، فاتحة خير علي. فقد منحني احساسي بانني لست بحاجة لأن أطلب شيئاً من أحد، وأنني قادر على التصرف، والتعامل بسرعة قياسية، والإعتماد على الموارد المتاحة بين يدي، شعوراً إيجابياً للغاية. فقد خيمت في مكان لا يعد آمناً، وفقاً لمقاييسي المعتادة. إذ نصبت خيمتي في منطقة جبلية، بدون أن يكون لدي الوقت الكافي كي أتحقق جيداً من المنطقة المحيطة.

منحتني هذه التجربة،على بساطتها، شعوراً بالغاً بالحرية، وبكسر حاجز آخر للخوف. تماماً  كما حدث معي في ليلتي الأولى، في هذه الرحلة، لكن بطريقة اخرى. شعرت بأنني أكتسب المزيد من الخبرة، والقوة، لمواجهة أخطار الطريق. لكنها ليست قوة نفسية، بقدر ما هي نفس اليد الكونية الرحيمة التي ترعاني وتحنو علي في لحظات ضعفي، تمنحني الآن القوة، وتحررني من مخاوفي.