الجمعة، 29 نوفمبر 2013

10- رحلة حول مصر بالدراجة- الداخلة- القصر


تقع قرية القصر، على الطريق المؤدي إلى موط، عاصمة الداخلة. وهي موجودة على الخريطة السياحية، بسبب إحتوائها على مدينة القصر الأثرية الإسلامية. ولولا وجود هذه المدينة الأثرية فيها، لكنت قد مررت عليها من على الطريق الرئيسي، مرور الكرام. ولكانت قد فاتت علي فرصة دخول هذه القرية، التي عشت بين اهلها، ورأيت منهم، وعرفت عنهم، ما جعلني أشعر أنني في بيتي، بحق.

في النصف الأول من الثمانينات، أصبحت القصر الإسلامية، وهي المدينة القديمة الموجودة داخل قرية القصر، والتي ترجع للقرن العاشر الهجري، مدينة أثرية. وبذلك أصبحت تابعة، بشكل او بآخر، لوزارة الآثار. وأصبح من غير المسموح، أن يقوم أصحاب المنازل بإجراء أي تعديل على البيوت، أو داخلها، أو التصرف فيها، بدون موافقة الوزارة. لم ينزح كل أهالي القرية منها، حيث اختار البعض ان يبقوا فيها، ولكن تدريجياً، ومع مرور السنوات، لم يبق فيها إلا عدد محدود جداً من السكان. وبرغم ذلك، فحين سرت في دروبها وحاراتها، شعرت وكأنني اشاهد الصبية يلعبون. وأهل البلد يغدون ويروحون. النساء يتخاطبن من أسطح البيوت، وأصحاب الدكاكين يبيعون السلع التقليدية، ويجلسون أمام دكاكينهم يرحبون بالمارة، بسماحة واضحة، مازالت تميز أبنائهم واحفادهم، من أبناء القرية الحاليين.

حكى لي أحد كبار السن من أبناء القرية. والذي كان قد قضى طفولته وشبابه في المدينة القديمة، كواحد من سكانها، أن أهالي البلدة كانوا يجلسون على أسطح منازلهم، في أمسيات الصيف. ولأن المنازل مبنية قريبة من بعضها البعض، ومتلاصقة، فكان أهالي البيوت الموجودة في أول المدينة، يتمكنون من سماع حديث أهالي البيوت الموجودة في آخرها، مع بعضهم البعض، بوضوح. فالقصر القديمة، وفقاً لتعبيره، كانت مبنية بشكل يجعل كل أهلها يعيشون بشكل متقارب، وكأنهم عائلة واحدة. وهو ما كانوا يشعرون به، بالفعل. وهو يتأمل في كون أجداهم قد بنوا القرية باستخدام الطوب اللبن، وليس الحجر. مع ان الحجارة قريبة ومتاحة، في الجبل. فيعبر عن تصوره بأنهم قد فعلوا ذلك، نظراً لأن الطين قريب جداً من الإنسان، بحيث يشعر بأنه قريب منه، يشبهه، وكأن هناك صلة قرابة بين ساكن البيت، وجدرانه. ويقول بتأثر، مؤكداً على كلامه، أن جدران الكثير من البيوت، قد بدأت في التشقق، بعد أن هجرها سكانها، وذلك على الرغم من عدم وجود اي مياه جوفية في المنطقة المحيطة بالمدينة. وهو ما لا يجعل هناك اي سبب مادي، وفقاً لتعبيره، يؤدي إلى تشقق الجدران. يفسر هو ذلك بأنه شكل من اشكال تعبير الجدران عن حزنها، على فراق ساكنيها.

وكان سكان المدينة يحصلون على الماء عن طريق"السقا". كما تحتوي المدينة على نظام تبريد فعال للغاية. ففي الوقت الذي قد تكون فيه درجة الحرارة مرتفعة جداً بالخارج، ينعم من يسير في طرقات المدينة، بدرجة حرارة معتدلة جداً، ونسمات عليلة.

والمباني المكونة من طابقين، أو ثلاثة، مصممة بشكل يجعل درجة الحرارة داخل المدينة، أقل بكثير عنها خارجها. فأغلب الشوارع مسقوفة. وتوجد فيها فتحات. ويتم تصميم الفتحة بحيث تقع بين حائطين في سقف أحد دروب المدينة. ويكون الحائط القبلي أطول من الحائط البحري. بحيث يصطدم الهواء الآتي من الجهة البحرية بالحائط القبلي، فينزلق إلى اسفل، مُحدثاً تيارات هوائية، تجعل من يسير في طرقات المدينه يشعر بها وكأنها مكيفة.

وهناك أعتاب خشبية تعلو ابواب البيوت، مكتوب عليها اسم صاحب الدار، وبانيها، وتاريخ انشائها. وقد سميت دروب المدينة وحاراتها، بأسماء قاطنيها، مثل حارة القرشيين والجزارين، والحبانية. وكل لكل منها باب، يتم اغلاقه، لحماية السكان.

وهناك مسجد، بسيط لكن بديع، به ضريح للشيخ نصر الدين، الذي يعرف المسجد نفسه باسمه. ويبلغ ارتفاع المأذنة، حوالي 21 متر. وهي ترجع للعصر العثماني، لكنها تتبع نمط المآذن في العصر الأيوبي.

كما توجد بناية كبيرة من طابقين مشيدة بالطوب اللبن. يُعتقد أنها كانت مدرسة. حيث شيدت على طراز المدارس الاسلامية القديمة، ذات الإيوان الواحد. و من المحتمل أيضاً، أنها كانت إحدى قاعات بيت الضيافة، الملحقة بالقصور العثمانية. ويعرف المبنى حالياً باسم المحكمة، نظراً لأنه استخدم كمحكمة، فيما بعد. وبه مكان للقاضي، وغرفتين كان يتم استخدامهما كسجن للمجرمين. وهو يحتوي على مكتبة للكتب القديمة. وقد استخدم بعد ذلك كمدرسة لتعليم القرآن للأولاد.

سرت، حتى وصلت لمنطقة في وسط المدينة، في حارة عائلة خلف الله، وجدت فيها عصارة للزيتون، كانت تستخدم لاستخراج الزيت. وهي تعد من أهم العمائر المستخدمة في الحياة اليومية بالمدينة. وتتكون من جزئين، آلة لجرش الزيتون، وأخرى لعصره.

ويتذكر عبد الرازق، موظف الآثار الذي اصطحبني خلال جولتي بالمدينة، طفولته وصباه بالمدينة. ويقول أنه بعد أن أصبحت المدينة على قوة وزارة الآثار، بدأ الناس تدريجياً في مغادرتها، وبخاصة بعد أن ضاقت بهم البيوت، مع زيادة عددهم. وسكنوا في رحاب قرية القصر.

وتحتوي القصر ،مثلها مثل سائر قرى الداخلة، على حقول للقمح والشعير والأرز والنخيل، وغيرها من الزراعات، التي تحيط بالقرية، بشكل فائق الروعة. وفي الماضي،كانوا الزراعة تتم بدون كيماويات، وباستخدام الأسمدة الطبيعية فقط. وهو ما كان له بالغ الأثر على صحة الناس، وتمتعهم بالقوة الجسدية. أما الآن، فقد تغير الوضع، بسبب استخدام الكيماويات في الزراعة.

وشكا لي أحد الأهالي من صعف المستوى الطبي بمستشفى القرية. حيث يتم ارسال الأطباء حديثوا التخرج للعمل بها. مما يعرضهم للتعامل مع حالات تتطلب خبرة، لا تتوافر لديهم. فلا يكون امامهم سوى إحالة الحالة لمستشفى موط، وهي لا تختلف كثيراً عن مستشفى القصر، وفقاً لكلامه. أما الوضع الأمثل، فهو أن تتم إحالة الحالة لمستشفى أسيوط، بحيث يحظى المريض بفرصة ركوب سيارة الاسعاف، التي تتوافر بها اجهزة وخدمات طبية متقدمة، ربما لا تكون متاحة في مستشفى القصر، أو حتى في موط.
وسمعت قصة طريفة عن دخول الراديو لقرية القصر، منذ زمن بعيد. ففي البداية، دخل الراديو بيتين فقط من بيوت القرية، ولم يكن بالقرية كهرباء من الأساس. فكان على صاحب الراديو العثور على طريقة لشحنه، كي يتمكن أهل القرية من الاستماع اليه، حين يتجمعون في الساحة أمام داره، في المساء. وضع الرجل ما يشبه البطارية، التي يتم شحنها عن طريق دينامو، يعمل من خلال إسطوانة يدوية (تسمى بالدولاب). فكان الأطفال يعودون من المدرسة، ليتبادلوا العمل، بهمة ونشاط، على تدوير هذا الدولاب، كي يتم شحن البطارية. بحيث يتمكنون من الاستماع إلي الراديو مع الكبار، في المساء، إذا ما لم يغلبهم النوم، قبل ذلك.

والأعياد، عند اهل القرية، لها إحتفالات تقليدية خاصة، إذ يخرج اهل القرية، ويتم قرع الطبول، والتوجه لزيارة القبور، واضرحة الأولياء. وقد كانت الأعياد تعد بمثابة موسم للأفراح، التي كانت تستمر لمدة ثلاثة أيام، كما كان يستخدم فيها المزمار، والطبل البلدي. والأفراح هناك تكون الدعوة فيها عامة، تشمل اهل البلد كلهم.

ويقال أن "القرشية"، الذين تعود أصولهم إلى الجزيرة العربية، كانوا أول من وفد على القرية، مع وصول القبائل العربية، لهذه المنطقة. وتنتسب اليهم، الكثير من عائلات القرية، مثل عائلة كساب، والعمد، وحمد وخلف الله، وغيرها. كما يحكى أن هذه المنطقة لم يكن فيها سوى عدد قليل للغاية من السكان، لدى وصول اجدادهم القدماء للقرية، لم. وقد قاموا ببناء المدينة القديمة، على أنقاض معبد فرعوني قديم.

وقد حكى لي أحد شباب القرية عن أسطورة، يتحاكاها البعض، في القرية والمناطق المحيطة بها، تحكي عن كنز مرصود، في منطقة تسمى بـ "عين الحجر". الكنز مكون من آثار فرعونية، مخبؤة في هذه المنطقة، ولا يمكن لأي شخص العثور عليها، مهما حاول. ولكن، في لحظة معينة، ومع شخص معين، تنشق الارض عن هذا الكنز، وتظهره لهذا الشخص، الذي لا يسعى للعثور على الكنز، وإنما يكون سائراً وهو شارد الذهن، ليفاجأ بالأرض تنشق امامه، وتقوده إلى سرداب يقوده إلى معبد دير الحجر. ليأخذ "إللي فيه النصيب" من آثار ويمضي.

قد تبدو هذه الأسطورة سخيفة، بالنسبة لكثير من سكان المدن الكبرى. لكنها في الحقيقة لا تختلف كثيراً عن أسطورة إرسال رسالة بجنيه من على تليفونك المحمول، لتفوز بمليون جنيه، تهطل عليك من السماء، بدون عناء. ولا تتمثل القضية، بالنسبة لي، في إذا ما كان هناك ثمة إحتمال ان تفوز بمليون جنيه في المسابقة، أو إذا ما كان هناك كنزا خفي من عدمه. لكن ما يسترعي إنتباهي، هو أنه يبدو ان "الاسطورتين" تجمع بينهما نفس الحاجة النفسية البشرية، للعثور على حل يخرق المسار الطبيعي للأمور، ويمنحنا "الخلاص" من مشاكلنا الحياتية، بأسرع وقت ممكن. أشعر أننا، بذلك، ننسى أن رحلة الحياة نفسها، بكل ما فيها من سراء وضراء، هي المقصودة. لاننا نتعلم ونتطور من خلال كل ما نجابهه في هذا الحياة. والحلول السريعة، قد توفر علينا الكثير من المشاكل، لكنها تحرمنا من التعلم، والاستفادة، من تجاربنا الحياتية.

ويتسم مجتمع القرية بالترابط، فما ان يتعرض أحد أبنائها، أو بناتها، لإعتداء من خارج القرية، حتى تهب القرية كلها لنجدته.  وقد لمست درجة كبيرة من الطيبة والسماحة والكرم، سواءمن خلال تعاملات سكان القرية مع بعضهم البعض، أو مع الغرباء، أمثالي.

والقصر، مثلها مثل كل القرى المحيطة بها، لها لهجتها الخاصة، التي لا تخطئها أذن أهل الداخلة الأصليين. فالواحد منهم بإمكانه أن يعرف من أي قرية انت، بمجرد سماع حديثك. وقد استطاع أهل القصر الحفاظ على عاداتهم، إلى حد بعيد، في مواجهة تقلبات الزمن. ولربما ساعد على ذلك أن القرية لم يسكنها وافدون من الخارج، إلا قليلاً جداً. لكن في المقابل، غادر عدد كبير جداً من أهل القرية، إلى خارجها، بحثاً عن لقمة العيش. ويتركز معظمهم في الكويت، وحي دار السلام، بالقاهرة.
القصر مكان غير عادي، دخلتها لأقضي فيها ساعتين، أو ثلاثة، وأرحل. فقضيت بها عدة أيام. ولولا أننني كان يجب علي أن أرحل، كي أستكمل رحلتي حول مصر بالدراجة، لما فارقتها، بهذه السرعة، أبداً. لقد دخلت هذه القرية وحيداً، لا أعرف فيها أحداً. فخرجت منها، بعد عدة أيام، وقد أصبح لي فيها أصدقاء، يعاملونني كأخ لهم، وأعتبرهم إخوتي.

إن كان هناك مكان قد أحببته منذ إنطلقت بدراجتي من القاهرة، في الأول من نوفمبر؛ فهذا المكان هو " القصر".



هناك تعليقان (2):

  1. Mohammad, your trip around Egypt is amazing! You are fulfilling dreams of so many of us who love Egypt so much and wished we could do the same but life circumstances prevent us from such a trip. We are living it through your eyes, ears, emotions, and soul. Thank you for this opportunity and may Allah keep you safe and return home to your beautiful family. Amina

    ردحذف
  2. عبارات لمست روحي بقوة "بين من الطين لأنه يربطنا بالأرض" هذا المعنى عميق جدا.. وما أسعدك في هذه الرحلة عندما ترى "الإنسان" في فطرته وإنسانيته.. دخلت وحيدا وخرجت بأصدقاء .. هذا التقارب الإنساني هو القمية التي تدخل في نقوسنا شيئا من الراحة والسكنية والبهجة. اللهم قرب بين قلوب عبادك، واجعل الحب نسيجا يربط البشر جميعا، وبه نقضى على الفقر والحاجة والشقاء. إن رحلتك ستحمل رسالة جميلة لكل إنسان، وياليتك تترجمها إلى الإنجليزية أيضا عندما تعود بإذن الله.

    ردحذف