الأربعاء، 27 نوفمبر 2013

9- رحلة حول مصر بالدراجة- الداخلة- المعبد والمقبرة الرومانية

أستيقظت، حيث خيمت، على الطريق المؤدي إلى موط، عاصمة واحة الداخلة، وحزمت أمتعتي، لأنطلق بدراجتي. مررت على حقول جميلة، ومزارع بديعة لها ابواب بدائية الصنع، لكنها في غاية الذوق والجمال، بعض أجزاء الطريق محفوفة بالأشجار من الجانبين، وبعضها تحيط به تجمعات مائية، فيما يشبه الجداول الصغيرة. تليها أراضي غير مزروعة وما زالت بكراً، تنتظر من يزرعها. السير بالدراجة هنا، منعش للغاية.

أصل إلى لافتة على الطريق تشير إلى طريق آخر جانبي، يفضي إلى "معبد دير الحجر". أسير فيه، عابراً قريتين، وأخرج إلى مساحة صغيرة، غير ممهدة. تفضي إلى طريق يبدو عليه أنه كان ممهداً، لكن كسته الرمال. أقابل رجلاً على موتوسيكل قادم من الجهة المقابلة. أسأله على دير الحجر، فيستدير ليقودني إلى المعبد. يترك هو دراجته البخارية في الخارج، كما أترك أنا دراجتي الهوائية، وندخل معاً. ينادي  الرجل على حارس المعبد، عادل، الذي يصر على أن أجلس، كي أشرب كوباً من الشاي، قبل أن يصحبني معه، في جولة بالمكان.

يقع المعبد قبل مدينة (القصر) الإسلامية بنحو 15 كم . وقد شيد بالحجر الرملى فى العصر الرومانى، في عهد الإمبراطور نيرون. وكرس لعبادة آمون رع, و كان يعرف باسم (ست إعح) أى (مكان القمر). المعبد محاط بسور، وبداخلة اعمدة، كما يحتوي على قدس للأقداس، تم تشييده في فترة لاحقة، وفى عهد امبراطور آخر، هو دومتيان.

المعبد، وإن كان قد شيد في العهد الروماني، لكن عناصره المعمارية مماثلة  للمعابد المصرية في عهد الدولة الحديثة (الأسرة 18). وهو ما يشي بإمتداد تاثير الثقافة المصرية القديمة، حتى العهد الروماني. لدرجة أن جدرانه مزدانة بمناظر تمثل العديد من الأباطرة الرومان، وكل منهم يتعبد للآلهة المصرية القديمة، أو يقدم لها القرابين. عجيبة هي قدرة المصريين على إحتواء الثقافات الأخرى الوافدة عليهم، بما فيها ثقافات الغزاة.

وقد قامت إحدى البعثات بكشف الرمال عن معبد دير الحجر. فقد كان معظمه مردوماً، فيما عدا بعض العمدان المرتفعة، التي قامت بعثة أثرية ألمانية، سنة 1899، بكتابة أسماء أعضائها فوق أحدها، قبل إزاحة الرمال عن المعبد. كما قام حكمدار  أسيوط بكتابة اسمه هو الآخر، على أحد الجدران. بالإضافة إلى شخص أخر كتب اسمه، وأرخه بسنة 1922. ويبدو أن عادة تشويه الآثار عن طريق كتابة الناس لاسمائهم عليها، لا تقتصر على شريحة من المصريين فقط، بل تتخطاهم إلى بعض الأجانب، بما فيهم من يعملون في التنقيب على الآثار منهم. كما لا يبدو أن المنصب الرسمي لذلك الحكمدار، ومستوى التعليم المرتفع الذي ينبغي أن يكون قد حصل عليه، قد حالا دون ممارسته لتلك العادة الذميمة... لك الله يا مصر.

خرجت من المعبد، لألتقي بـ"اليساندرو"، رجل إيطالي بصحبة زوجته، أو صديقته، لا اعرف. أبدى إهتماماً كبيراً بالدراجة، وسألني من أين جئت؟ حكيت له عن رحلتي، وإهتم بتسجيل اسم مدونتي، كي يحكي لأصدقائه المصريين عنها. تصافحنا، وتحركت بدراجتي، على نفس الطريق الذي جئت منه، متفكراً فيما رأيته في المعبد.

 نظرت أمامي، فوجدت صبية مليحة في نحو الثامنة عشر أو العشرين، تمر أمامي مسرعة. لمحتني، فأشاحت بوجهها لثوانِ، ثم نظرت ناحيتي بقدر من الحياء، لكن بثبات. وتغيرت خطواتها، فأصبحت تمشي على مهل. ابتسمت بيني وبين نفسي، فقد كان المشهد شديد الشبه بروايات نجيب محفوظ، التي تصور الحياة في القاهرة القديمة. أشحت بوجهي، وأكملت طريقي وأنا افكر في زوجتي الحبيبة، وأولادي الصغار، لقد إشتقت اليهم كثيراً. فقد تركتهم في القاهرة، منذ ثلاثة أسابيع كاملة.

مررت على قرية "الموهوب"، و لهذا الاسم قصة. إذ حكى لي أحد سكانها، والعهدة على الراوي، أن اسم القرية يعود إلى رجل ظالم، حكم القرية. فقد جاء "أحمد الموهوب" إلى هنا، من ليبيا، مع مجموعة من الناس، هرباً من الحرب بين الطليان، وعمر المختار. وتغلب هو ومن معه على أهل المكان الأصليين، الذين كانوا اقل عدداً، وحكموهم عنوة، لفترة من الزمن.

وصلت إلى مقابر المزوقة، التي تبعد مسافة بسيطة عن الطريق الرئيسي المؤدي إلى قرية القصر. وهي تعود إلى القرن الأول الميلادي، أي إلى العصر الرومانى. المقابر محفورة فى الصخر, وجدرانها مغطاة بطبقة من الجص. وقد لفت نظري نقطة تشابه واضحة بينها، بين ومعبد دير الحجر. فكل الرسومات التي تغطي جدران حجرات الدفن فرعونية، فيما عدا جدار واحد فقط، تكسوه رسومات ذات طابع روماني واضح.

التقيت بـ"اليساندرو" ورفيقته مرة أخرى. وقفنا معاً لنشاهد بئر روماني قديم، جفت مياهه. كا شاهدنا المقابر المتناثرة وسط الصخور. كان معهم مرشد سياحي، أخبرني أن الرومان كانوا يبنون جباناتهم في أماكن مرتفعة، على العكس من المصريون القدماء، الذين كانت مقابرهم دائماً تحت مستوى الأرض. أخذ اليساندرو يستفهم مني عما احمله من ماء على الطريق، أثناء سفري بالدراجة. شرحت له أنني أحمل معي حوالي 4 لترات من الماء، وقبل نفاذهم، أتزود من الشاحنات وسيارات النصف نقل التي على الطريق.

كانت هناك مجموعة من الموظفين المصريين يقومون بترميم حجرات الدفن. شاهدتهم وهم يعملون، وعرفت منهم أنهم لا يقومون باصلاح ما افسده الزمن من صور ورسومات. وإنما يقتصر عملهم على استخدام بعض المواد للحفاظ على ما هو قائم بالفعل.

ودعت اليساندرو، وسرت حتى وصلت إلى قرية القصر، ناوياً مشاهدة المدينة العربية الإسلامية القديمة هناك، ثم المغادرة كي أقضي ليلتي في "موط" مركز الواحة، والتي تبعد نحو 35 كم عن القصر. لكنني وجدت في القصر ما يدعوني للبقاء أكثر من ذلك، فبقيت بها لعدة أيام.


هناك تعليق واحد:

  1. إنك تكتشف طبقات وطبقات من الحضارات التي جاءت إلى مصر، وتمصرت بها، ولكن لم تستطع أن تستوعب رسالتها كاملة. بل مثلها مثل البشر جميعا، لديهم تلك النزعة للاستحواذ، دون الذوبان. وتأكيد تلك النزعة يظهر في السلوك الفردي الذي يصمم أن يضع اسمه، مشوها بذلك البناء الأصلي. الحمد لله، وسلمك الله من كل سوء يا محمد.

    ردحذف