الاثنين، 18 نوفمبر 2013

6-رحلة حول مصر بالدراجة- الطريق إلى الفرافرة

خرجت من الواحات البحرية، بعد أن قضيت بها عدة أيام، متجهاً بدراجتي إلى الفرافرة، التي تبعد عنها نحو 185 كم. اخترقت السوق بالباويطي، وسرت بين بيوت الواحة. حتى بدأت كثافة المباني تتراجع من حولي تدريجياً، وأصبحت محاطاً بالصحراء تماماً. فعرفت أنني على أول طريق الفرافرة.

كانت بداية الطريق هادئة. لم تكن الرياح في صفي، ولم تكن عكسية، وإنما كانت رياح جانبية، تأتي من جهة اليمين. وتسبب هذه النوعية من الريح إزعاجاً لقائد الدراجة، فهي تعطله، وتبطئ من سرعته. لكنها ليست بنفس درجة السوء التي تتسبب فيها تلك الرياح العكسية، التي تهب في مواجهته مباشرة. مررت على منطقة يكثر في جبالها اللون الأسود، فعرفت أنها الصحراء السوداء، لكنني لم الحظ أي لافتة تشير إلى ذلك.

بعد نحو أربعون كم، وصلت قرية الحيز. لم تكن هناك أي لافتات تشير إلى ذلك، فاستوقفت احدى السيارات للتأكد من ذلك، وسألتهم عن الكافيتيريا، فأشاروا إلي مبنى قريب. توجهت لهناك، وناديت:"السلام عليكم". بعد ثواني ظهرت سيدة، أجابتني: "وعليكم السلام". سألتها:" أم حسين؟" أجابت بنعم، فقلت لها "انا جايلك من طرف محمود عيد في الواحات البحرية"، قالت: "انت محمد حلاوة؟".... رددت: "أيوه أنا، هو محمود كلمِك؟"...أجابت: "لأ، بس الجماعة الفرانسويين قالوا لي عليك!!".

عائلة جريج هي عائلة فرنسية تسافر باستخدام العجل. أب وأم وثلاثة أطفال صغار. التقيت بهم على طريق القاهرة-الواحات البحرية. خيمنا معاً لليلة، وافترقنا في اليوم التالي، على أن نلتقي في الواحات بعد ذلك، لكننا فقدنا أثر بعضنا البعض.

أم حسين سيدة تبدو في الإربعينيات من عمرها، أصلاً من المنوفية. جاءت مع زوجها منذ سبعة عشر عاماً ليعيشوا في هذا المكان قليل الخدمات. في العام الماضي، أصيب زوجها بغيبوبة سكر، ولم تتوافر الامكانيات الطبية اللازمة لانقاذ حياته. وبين يوم وليلة، فقدت أم حسين زوجها.

تعيش مع ولديها الصغيرين في هذه الكافيتيريا التي أنشأتها مع زوجها. وأحياناً مايتواجد معها شقيقاها. يذهب الصغيران إلى المدرسة الحكومية الموجودة بالمنطقة. لا يزيد عدد تلاميذ الفصل الواحد في المدرسة عن خمسة أو ستة. كان يمكن أن يكون مستوى التعليم في المنطقة في منتهى الجودة؛ فقط لو كان المدرسون يذهبون إلى عملهم قي المدرسة بانتظام. 

لكنهم يأتون من الواحات البحرية في أتوبيس، وكثيراً ما لا تزيد نسبة تواجدهم في المدرسة، عن يومين في الأسبوع.

حكت لي أم حسين، وشقيقها الشيخ خالد، عن سعادتهم بالأسرة الفرنسية راكبة الدراجات. نزل الفرنسيون في ضيافتهم لمدة يومين، أصبح الأطفال الفرنسيين وابناء ام حسين خلالهما أصدقاء، يلعبون مع بعضهما البعض. كما حكت لي هي وشقيقها، أن جريج سألهما عني، وكان يسأل سائقي النقل الذين يتوقفون للراحة وتناول الطعام، عما إذا كانوا قد رأوا مصري يركب دراجة، اسمه محمد حلاوة. كان جريج يتصور انني قد سبقتهم على طريق الفرافرة، في حين كنت قد غادرت الواحات البحرية بعدهم بيومين أو ثلاثة، وهم الذين كانوا قد سبقوني، لكنه لم يعرف.

أصر الشيخ خالد وأم حسين على استضافتي للمبيت بالكافيتيريا تلك الليلة. كان الوقت مبكراً وما زال أمامي الفرصة كي أقطع مسافة اضافية على الطريق، لكن دفء ترحيبهم بي، بالاضافة إلى رغبتي في مشاهدة الآثار الموجودة بالمنطقة، جعلاني أحسم أمري وأقرر المبيت في هذا المكان.

جلسنا نتحدث ونتبادل التعارف، حكوا لي عن حياتهم في هذه المنطقة، وعن فرص الاستثمار والزراعة فيها، والتي لا تكاد تجد الاهتمام اللازم. وأحد مظاهر الاهمال الذي لاحظت بنفسي أن المنطقة تعاني منه؛ هو عدم توافر تغطية لشبكتي فودافون واتصالات، حيث لا توجد تغطية كافية سوى من موبينيل. وهو أمر لاحظته بداية من النصف الثاني من طريق القاهرة - الواحات البحرية. ولما كنت أحمل معي خطين، أحدهما فودافون والثاني اتصالات، كان علي أن اشتري خط موبينيل حين أصل للفرافرة، متخلياً عن استخدام خط اتصالات، الذي لا توجد لديه تغطيه في معظم الوقت. مع ملاحظة أنه حتى موبينيل ليس لديها تغطية كافية لبعض أجزاء الطريق.

قضيت ليلتي في الكافيتيريا، نائماً على سرير محاط "بناموسية". واستيقظت لأجد الشيخ خالد يستعد لاقتراض دراجة من أحد الجيران، والتوجه معي بها لمشاهدة الكنيسة الرومانية، وما حولها من آثار. حزمت أمتعتي، وشكرت أم حسين، وودعتها، بعد أن كنت قد ودعت ابنائها قبل ذهابهم إلى المدرسة، وانطلقت بدراجتي بصحبة الشيخ خالد الذي أبدى سعادته بركوب الدراجة، ورغبته في شراء واحدة كي يستخدمها للتريض والحركة طوال مدة تواجده في "الحيز".

تقع قرية الحيز في منطقة اسمها القديم هو "طبل آمون". ويشير هذا الاسم إلى الجذور المصرية القديمة للمنطقة. كما توجد بها آثار رومانية، تقع على مسافة نحو 5 كم ، خلف القرية. سرنا بالدراجتين قليلاً على الطريق الرئيسي، ثم إنعطفنا جهة اليسار لنسير عدة كيلومترات أخرى على طريق فرعي ممهد. حتى وصلنا إلى نقطة كان يتحتم علينا أن نسير منها بالدراجات وسط الرمال، كي نصل إلى الكنيسة. كان التحرك بالدراجة وسط الرمال، بكل ما عليها من حمولة، هو أمر بالغ الصعوبة، لكنني وصلت في النهاية.

وجدت كنيسة رومانية، تؤرخ بالفترة ما بين القرنين الرابع والسادس الميلادي. الكنيسة تخضع للترميم لدرجة أنها محاطة تماماً بالسقالات من الخارج، كما تملأها السقالات من الداخل أيضاً. وعلمت من الخفير القائم على حراسة الكنيسة، إنها على هذا الحال منذ فترة بعيدة، وأنها ليست المرة الأولى التي تخضع فيها الكنيسة للترميم. فقد سبق الانتهاء من ترميمها، وبينما كان المقاول على وشك انهاء إجراءات تسليمها؛ انهارت الترميمات تماماً. ويعاد ترميمها الآن، منذ فترة طويلة.

وعلى بعد أمتار من الكنيسة، فوجئت بمشهد بالغ السوء. رأيت عدة أكوام من العظام المتناثرة، التي تنضح مقاييسها بأنها بشرية، ملقاه على الرمال. وهو ما اكده لي الحارس، فقد أخبرني أنها بالفعل عظام بشرية، تم استخراجها من مقابر رومانية أثناء التنقيب عن الآثار، ثم تُركت هكذا، بعد رحيل بعثة التنقيب عن الآثار. وسواء كان كلام الحارس صحيحاً، أو أنه قد تم استخراج هذه العظام من مدفنها لأي سبب آخر، فالدولة مسئولة عن حمايتها وحفظها بطريق لائقة. فالموت له حرمته، والآثار، كلها، تستحق المعاملة بشكل افضل من ذلك بكثير.

إهمال الكنيسة وهذه المنطقة بهذا الشكل خسارة فادحة، فهي شاهد على تنوع الحضارات التي عاشت، وتركت بصمتها على أرض الواحات. وبخاصة أن الكنيسة لا تقف وحدها في هذا المكان، إذ يوجد بجوارها بئر روماني قديم. كما توجد أطلال مبنى أخر يقولون هنا عنه أنه كان ديراً، وفي رواية أخرى قصراً رومانياً. كما يوجد مصنع للخمور،يقع خلف هذا المبنى. لكنني لم أشاهد هذا المصنع بنفسي نظراً لبعده عن الطريق، بالإضافة إلى ضرورة أن أسير بالعجلة فوق الرمال لمسافة أخرى كبيرة حتى اصل إليه.  وفوق كل ذلك، لم أجد في رؤيته إضافة كبييرة بالنسبة لي، فأكتفيت بما شاهدته من آثار. وغادرت المنطقة مع الشيخ خالد،حتىى وصلنا للطريق الرئيسي، فسلمت عليه شاكراً لطفه البالغ، ومضيت لحال سبيلي، مكملاً طريقي للفرافرة بالدراجة.

سرت في سلام، سعيداً بأنه لا توجد كلاب تطاردني على هذا الطريق، حتى وصلت إلى منطقة مليئة بالمزارع على الجانبين، فبدأت أتشكك في أن الوضع سيستمر كذلك. و كان قلقي في محله، إذ تعرضت لمطاردة أو إثنتين من الكلاب، قبل ان أشاهد كلباً يقف وسط الطريق من بعيد. نزلت من على العجلة، وأخذت أرقبه كي أدرس رد فعله، كما بدا عليه هو أيضاً انه يفعل نفس الشئ. تحركت للأمام تجاهه ببطء وهدوء، اقتربت منه أكثر بحيث لاحظت أنه صغير. لكن حانت مني التفاتة للوراء لأجد من خلفي كلب آخر معه جرو صغير. رمقني الكلب الكبير بنظرة متفحصة سريعة، وبدا عليه عدم الاهتمام. اقترب مني الجرو، لكنني صحت فيه بهدوء وحزم: "هشششش". كان صغيراً ، ومن الواضح أنه كان يريد ان يلعب، ليس أكثر. لكن من ذا الذي يرغب في اللعب مع جرو، بصحبة كلب كبير تشي ملامحه وشكل أسنانه بأنه ينحدر من سلسلة حيوان أخر، قد يكون يشبه الكلب، بل وربما تربطه به قرابة من بعيد، لكنه بالتأكيد أكثر منه شراسة بكثير. وقفت مكاني قليلاً، ثم أخذت أتحرك بحذر، حتى ابتعدت عن تلك المنطقة، ثم ركبت دراجتي وأنطلقت.

بعد فترة، قابلني مطلع في وسط الجبال. كان المطلع بالغ الطول، والطريق مكسرة وغير ممهدة في الوقت ذاته. كان هذا أمراً بالغ القسوة، ولم يكن من الممكن قيادة الدراجة بشكل طبيعي في مثل هذا الوضع. فالدراجة لا تكاد تكتسب السرعة اللازمة للتحرك، بسبب وعورة الطريق وإمتلائه بالحصى والزلط، يضاف إلى ذلك ما يشكله المطلع نفسه من صعوبة شديدة. أخذت أنزل من الدراجة وأسير بجوارها، متجاوزاً بعض أجزاء المطلع شديدة القسوة، والمكسرة، ثم أركبها مرة أخرى، لأن السير بجوارها على هذا المطلع، وهي محملة بكل هذا الوزن، وفي مثل هذه الحرارة، لهو أمر لا يقل صعوبة عن ركوبها ومحاولة استكمال الصعود بها. أنهكني هذا المطلع، لكنني تجاوزته، وأكملت طريقي.

 مررت ببدايات الصحراء البيضاء، وهي محمية طبيعية تمتد على مساحة واسعة. تتميز بتكويناتها الجيرية (الطباشيرية) البيضاء، التي نحتتها عوامل الطبيعة عبر الزمان. وهي تمثل نقطة جذب شهيرة لسياحة السفاري.

 قابلني كمين شرطة، مررت بمنتهى البساطة بمجرد أن عرفوا مني، شفهياً، بأنني مصري. سالتهم عن "الجماعة الفرانسويين إللي راكبين عجل"، فكان الرد "هو انت محمد؟"، أخبروني أن جريج واسرته قد مروا من هنا، وقضوا ليلتهم عند كمين الشرطة، ,وانهم قد وصلوا الفرافرة بالفعل. كما أخبروني أن هؤلاء الفرنسيين ما زالوا يبحثون عني.

قبل الغروب بقليل. خيمت على جانب الطريق قبل الفرافرة بنحو 66 كم، وأخذت أستكشف المنطقة المحيطة بخيمتي. 

وجدت أثار أقدام لحيوان لم أتمكن من تحديده، لكنني التقطت لها صورة. كما رأيت غرابين يحلقان على مقربة مني، كل على حدة. استنتجت أنهم غربان من صوتهم ولونهم. لم يسببوا لي اي إزعاج، وكذلك فعلت أنا.

 استيقظت في الصباح وأنا أشعر بالنشاط، تحركت مستبشراً أن اصل بسرعة إلى الفرافرة، وشجعني على ذلك وجود منطقة مليئة بالمنحدرات (المنازل) المتلاحقة. وقد استمرت هذه المنحدرات لنحو الـ10 كم، قطعتها بسرعة نظراً لأن الهواء لم يكن معاكساً. ازداد أملي في أن أصل بسرعة، لكن على طريق السفر بالدراجة، لا يمكنك التنبئ بما ستواجهه، ولو بعد عدة دقائق.

فجأة، أصبح الطريق غير ممهد، مكسراً، وملئ بالحفر والشقوق. لم يكن مَطلعاً هذه المرة. كان الطريق مستوياً لكنه في حالة بالغة السوء. تصورت أن الأمر سينتهي بعد دقائق، لكنه استمر لنحو سبعة كيلومترات كاملة. أسير بالدراجة؛ فأخشى على الكاوتش من أن يتعرض لثقب، أو أن يتعرض لأي اذى أخر بسبب الحصى المتلاصق على الطريق. أنزل من على الدراجة، فأسير بجوارها ببطء شديد. أتصبب عرقاً، ولا يبدو ان لهذا الوضع نهاية. لكنه ككل شئ في الدنيا، إنتهى.

تحسنت حالة الطريق، بحيث أصبح يمكن السير عليه لكنه لم يعد ممهداً تماماً. إذ أنه يبدو أنه لا يلقى الرعاية اللازمة بأي حال من الأحوال. كانت هناك بعض الأجزاء غير الممهدة تتعرض للرصف  في مراحل سابقة من الطريق. لكن هذا الجزء مثلاً، كان ممهداً، لكنه متشقق، لدرجة أنك بين كل متر أو إثنين تصادف شقاً بعرض الطريق. لماذا تُرك الطريق يتهدور حتى وصل لهذه الحالة المزرية. هذا طريق من المفترض انه سياحي، ناهيك عن أنه يعد بمثابة شريان يتنفس سكان الفرافرة وما في جنوبها من قرى وواحات من خلاله. ظل الطريق سيئاً لفترة، ثم انصلح حاله قليلاً، مع ملاحظة أن هذا الطريق الذي يصل الواحات البحرية بالفرافرة، لا توجد بها حارة جانبية من الأساس. إذ لا يوجد سوى المجرى الرئيسي للطريق، وحالته كما وصفتها. بعض أجزاء هذا الطريق هي بمثابة جحيم لراكبي الدراجات. لكن كل هذا التعب يهون عند بلوغك مقصدك. أخيراً، اصبحت الواحة على مرمى البصر.

حلق فوقي سرب من الغربان وأنا اقترب من الواحة. وبشكل عام، الغراب طائر لا يستثير اي مشاعر لطيفة لدى أغلب البشر، وانا منهم. لكن تحليق سرب كامل من الغربان فوقي وأنا على دراجتي، كان له اثراً طيباً بداخلي. شعرت وكأنهم يستانسون بوجودي. ظللت المحهم يقومون بتشكيلات بديعة من فوقي وأنا اقود الدراجة، وهم يتحركون معي، حتى مرت سيارة بسرعة من جواري، فأختفوا على الفور.

وبعد قليل...وصلت الفرافرة

هناك 3 تعليقات:

  1. سرت معك خطوة بخطوة وقد أجدت في الوصف، بحيث أنني شعرت بالخطورة وأنت في طريق غير ممهد، ومقابلتك مرة أخرى للكلاب، والجو الحار. وكنت أتساءل هل كان معك ما يكفيك من الماء والغذاء؟ المغامرة دائما فيها جانب خطر، ولكن روحك العالية واضحة وإيمانك بما تفعل يؤنسك، وهذا فضل من الله. ، إن شاء الله تقابل دائما من يعاونك ويخفف عنك مشقة الطريق. وفي انتظار المدونة القادمة بإذن الله.

    ردحذف
  2. حفظكم الله ورعاكم....كم هى جميله تلك المناجاه ....أرجو منك الحديث باستفاضه عن مشاعرك الداخلية وكيف تكون مع الظروف المختلفه بالرحلة الى جانب ماتقومون به من سرد رائع لما ترونه ظاهرا....مع تمنياتى برحلة ثرية بالفيوضات والنفحات....فأنتم أهل لكل خير...

    ردحذف
  3. دائماً فى حفظ الله ورعايته يا محمد، كم ذكرت د.علياء وصفك لما تمر به وتحياه فى رحلتك جعلنا فى سعادة بأننا معك فى رحتك نسمع ونشاهد.حفظك الله

    ردحذف