الثلاثاء، 12 نوفمبر 2013

5- رحلة حول مصر بالدراجة- الواحات البحرية


وصلت الواحات البحرية بدراجتي، بعد أن قطعت ما يقارب الـ 400 كم، بدءاُ من بيتي بالمعادي، مروراً بمدينة 6 أكتوبر، ثم إنطلاقاً إلى الواحات البحرية، أقرب الواحات المصرية إلى القاهرة.

كنت أسير متجهاً إلى الباويطي، مركز الواحة، سائراً على الطريق الرئيسي بدون أن أنحرف عنه يميناً أو يساراً، كما أكد لي بعض السائقين، لأصل إلى مفترق طرق. إنتابني شعور قوي أن الطريق للباويطي هو الطريق الجانبي الأيمن، وليس الطريق الرئيسي. كان شكل الطريق تنبئ بذلك. مر بجواري موتوسيكل، وهو وسيلة مواصلات رئيسية هنا، إلى جانب سيارات الدفع الرباعي، والنصف نقل. استوقفت السائق لاسأله عن الطريق. نظر إلي باستغراب شديد، عدل من وضع موتوسيكله بحيث يصبح في مواجهتي مباشرة...ضاقت عيناه وهو يحدق بي ثم سألني: "إنت مصري؟"...أجبته ببساطة: أيوه مصري. كرر سؤاله وهو متعجب: "متأكد إنك مصري؟!!!!"..كررت إجابتي مؤكدأ على ذلك.....سكت لثواني ثم نطق بأغرب شئ يمكن أن يقال في هذا السياق...قال: "تبقى تبع مرسي!" إرتفعت حواجبي علامة على الإندهاش الشديد وقلت له بحسم: لأ أنا مش تبع مرسي. نطق بإندفاع من لم يكد يفكر فيما يقوله: "يبقى تسلم الأيادي"... أشحت عنه ملوحاً بيدي: "ولا تبع تسلم الأيادي"، ثم تركته منصرفاً، أتساءل بيني وبين نفسي: "هو أنا لازم أبقى تبع حد!!، مينفعش يعني الواحد يبقى له تفكيره المستقل، ومش ماشي كده تبع حد وخلاص!".

كنت قد بدأت رحلتي زاهداً تماماً في الكلام في السياسة، وبعد عدة أيام من السير على الطريق محاطاً بالصحراء من جميع الجوانب، أكاد أكون بعيداً عن الناس تماماً، لا افكر في إنتمائاتي السياسية، بقدر ما افكر في رحلتي وطريقي، وفي نفسي كإنسان؛ شعرت بكلمات هذا الرجل وطريقته الفجة تنزل على رأسي كالمطرقة. لكنني تجاوزته وسرت سالكاً الطريق الأيمن، متعجباً من  هذا الرجل الظاهرة، الذي يمثل نموذجاً سمجاً مبالغاً فيه لما وصلنا إليه من تقسيم وتصنيف لبعضنا البعض، حتى حين لا يكون هناك داعي لذلك على الإطلاق. وجدت أن إختياري أن أسلك الطريق الأيمن، كان هو الإختيار الصحيح.

كنت على مشارف الباويطي حين لفتت نظري لافتة على اليسار مكتوب عليها "متحف تراث الواحة". توقفت للتعرف على ما فيه، خرج إلى رجل قدم نفسه بوصفه صاحب المتحف، عرفت منه أنه فنان واحاتي، إسمه محمود عيد. رحب بي الرجل وعرض علي أن أشاهد المتحف. كنت قد وصلت للواحة لتوي بعد رحلة شاقة على الطريق، وبحاجة ماسة إلى الراحة. أخبرته إني سأذهب لتناول الغذاء والتقاط أنفاسي، عرض على الرجل تناول الغذاء معه. شكرته بلطف، وذهبت لأتناول الغذاء بنهم شديد. فبعد أيام من تناول طعام المعلبات (فيما عدا ما أكلته في الإستراحة على الطريق)، كان تناول وجبة من الكفتة المشوية أشبه بالعثور على بئر ماء بعد أيام من التيه في الصحراء.

عدت للفنان الواحي في متحفه. يتمتع الرجل بحس مرهف وموهبة فطرية. وهو يستخدم مواد خام من البيئة المحيطة في أعماله. المتحف يضم نماذج للبيوت التقليدية القديمة بالواحة، كما يضم قطعاً فنية تصور أهالي الواحات، وكبار السن منهم على وجه الخصوص، وهم يمارسون أنماط حياتهم التقليدية البسيطة، التي بدأت في التراجع والإختفاء.

حدثني احد كبار السن بالواحة، أن البدايات الاولى لتراجع العادات هناك، حدثت مع "دخول الأسفلت"، وفقاً لتعبيره، وذلك في عام 1973. قبل ذلك، كانت الرحلة للفيوم أو القاهرة، تتم باستخدام الجمال، وتستغرق عدة أيام. كانت الواحات البحرية أكثر إنعزالاً. يصف الرجل الحال حينذاك بأنه كان بإمكانك أن تستقي الحكمة من الناس. حيث كان يغلب عليهم الأدب في تعاملاتهم مع بعضهم البعض. ويكمل الرجل كلامه موضحاً أن التراجع الثاني للعادات كان بعد دخول التليفزيون في الثمانينات، الذي تلاه دخول الدش، بعدها بسنوات.

يشارك محمود عيد هذا الرجل نظرته الحزينة لتراجع انماط الحياة التقليدية بالواحات. وهو يتحدث عن أن استخدام الكيماوي أدى إلى الإضرار بالزراعة. بينما أدت المباني الحديثة الأسمنتية إلى إصابة الناس بالأمراض، نظراً لما تختزنه من حرارة. مذكراً بحكمة تقول: "لو كنت في الصحراء إبني بالطفلة، ولو كنت في القرية إبني بالطمي".

كنت قد تناولت طعام الغذاء في الباويطي، وهم يقولون هنا أنها قد تسمت بهذا الاسم، نسبة إلى أحد تلاميذ الإمام الشافعي، الذي جاء ليعيش في الواحات، وأحب أهلها واحبوه، فلما توفي شيدوا له مقاماً،يقع الآن في الواحة القديمة، وسموا البلدة باسمه. وما زالت إحدى العائلات الكبيرة تنتسب إلى هذا الشيخ.

يتسم أهل الواحة بكرم حاتمي بالغ. ما أن يتعرفوا عليك حتى تنهال عليك دعوات الغداء والعشاء بشكل محرج. وينعكس نقاء الجو والمساحات المفتوحة بشكل إيجابي على الكبار والصغار. فالكبار أعصابهم هادئة، بعكس سكان القاهرة والمدن الكبرى في مصر. أما الصغار فتجدهم منبسطي الأسارير، تبدو عليهم علامات الإنطلاق والفرحة، أكثر بكثير من أقرانهم في القاهرة. لكن على الرغم من ذلك، فقد إسترعى إنتباهي أن سلوكيات بعض سائقي الموتوسيكلات من المراهقين، تشبه سلوكيات نظرائهم في بعض الأماكن بالقاهرة، من حيث الطيش والإندفاع.

أجلس في وسط البلدة أتأمل في المارة. أشاهد كبار السن، ملامحهم سمراء مميزة، وتبدو على كثيرين منهم علامات الأصالة والطيبة. تمر امامي جماعات من شباب صغير السن، أسمعهم يتنادون بـ"أبو عمو"، أعرف بذلك أنهم ليسوا من سكان الواحة الأصليين، فهذا مصطلح لا يستخدمه سوى أبناء الصعيد فيما بينهم.

بداية من ثمانينات القرن الماضي، تغيرت التركيبة السكانية للواحة كثيراً عن حالتها الأصلية. إذ وفد عليها الكثيرون من الوادي والدلتا، وسكنوا بها.

ظلت الواحات البحرية مرتعاً للجِمال، ومعبراً للقوافل الآتية من ليبيا والمنيا، وغيرها. كما حلت عليها هجرات من ليبيا والسودان ومصر والجزيرة العربية. لذلك تجد أصول العائلات القديمة بالواحات، كالزوينة، والحدادين، والدواودة، والبويطي، وغيرها من العائلات، تعود إلى هذه البلاد المختلفة. ففي حين نجد أن أصل إحدى هذه العائلات مثلاً يعود إلى واحة الكفرة بليبيا، تجد عائلة أخرى منها وافدة من واحة الداخلة، في حين تنحدر عائلة ثالثة من بقايا الرومان الذين سكنوا الواحة من قديم الزمان. ويقال أن هذه العائلة هي آخر من دخل الإسلام من سكان الواحات البحرية، وأن بإعتناقها الإسلام، اصبح كل سكان الواحة من المسلمين.

تكون مجتمع الواحات القديم من هذا النسيج السكاني الذي تشكل من هنا وهناك.  وهوفي رأيي يمثل، بشكل أو بأخر، صورة مصغرة من مصر. فحين ذهبت في جولة بدراجتي لزيارة الآثار الموجودة بالواحة؛ وجدت هناك تنوعاً لافتاً للنظر. فهناك آثار فرعونية، تعد المقبرتان الفرعونيتان اللتان اكتشفهما الدكتور أحمد فخري في الباويطي مثالاً لهما.

المقبرة الأولى هي لجد-آمون- أوف-عنخ، وهو شخص من الأسرة "26" كان يلقب بـ " كبير التجار". وقد تم العثور عليها بحالة جيدة بالباويطي. أما المقبرة الثانية فهي مقبرة باننتيو، الزاخرة بالرسوم. وتوضح بعض هذه الرسوم عملية البعث والحساب بعد الموت، حيث تصور المصير السئ الذي يواجهه الأشقياء، والنعيم الذي يتمتع به الأخيار.

شاهد آخر على الآثار الفرعونية هنا هو معبد المفتلة. وقد شيد في عهد أحمس الثاني (أمازيس)،أحد ملوك الأسرة 26. وقد تم تسقيف الأجزاء التي كانت مكشوفة من المعبد، وترميمها، بعد أن نالت منها عوامل التعرية. بينما لا زالت الأجزاء التي كانت مطمورة في الرمال، على مر الزمن، تحتفظ بحالة جيدة حتى الآن.

ومن الآثار الهامة بالواحة معبد الإسكندر الأكبر، الذي يقال أن الأسكندر بناه لدى عودته من سيوة. فبدلاً من ان يعود عن طريق مرسى مطروح، عاد عن طريق الواحات البحرية. حيث شرع في بناء هذا المعبد للإله آمون. وقامت الدولة بتخزين مومياوات تعود إلى العصر اليوناني والروماني، تم اكتشافها في جبانة تقع جنوب الباويطي، ووضعتها في قاعة باسم المومياوات الذهبية، يطلق عليها اسم المتحف.

وق\ استقبلت الواحة قديماً العديد من المسيحيين الأوائل، الذين لجئوا اليها هرباً من بطش الرومان، حيث دانت الواحة بالمسيحية، قبل أن يتحول سكانها إلى الاسلام. 

الإمتزاج بين كل هذه العصور، موجود في جينات ووجدان كل إنسان مصري يعيش الآن. وإدراكنا بأنه على مستوى عميق، لا يوجد تناقض بين هذه العصور المختلفة، بل أن كل منها يضيف إلى الآخر، قد يساعدنا على ان نعلو فوق خلافاتنا المجتمعية الحالية، ونتجاوزها. مدركين أن الإختلاف بين البشر بإمكانه ان يصبح شيئاً إيجابياً. إذا ما أردنا ذلك.

ويوجد هنا جبل يطلق عليه جبل الإنجليز، تعلوه مباني كانت القوات الإنجليزية تستخدمها أثناء الحرب العالمية الثانية. كما يوجد جبل آخر يسمى جبل الدست والمغرفة، لم أشاهده بنفسي لكن حكى لي أهل الواحة أنه قد عثر فيه على حفريات لديناصورات، أحدها يعد الاكبر حجماً في العالم. وتم نقلها لتخضع للدراسة خارج مصر. لم يتسنى لي التأكد من دقة هذه المعلومة، لكنني احكيها كما سمعتها، والعهدة على الراوي.

والواحة مليئة بعيون المياة، كـ "البشمو"، وهي عين رومانية قديمة، وغيرها. ويستخدم السكان هذه العيون للزراعة، وأحياناً للشرب، بعد أن تترك ليوم أو إثنين ليتم تنقيتها في الزير أو خزانات المياه. ونسبة الحديد مرتفعة بالواحة، ولذلك لا تصلح بعض مياه الآبار للشرب، بدون معالجة.

قضيت عدة ايام بالواحة، إستمتعت فيها بنقاء الجو، وبالتعرف على الناس وثقافتهم. فقط أتمنى إلا تستمر الأجيال الجديدة (بل وأحياناً القديمة) في هجر طرق حياتهم التقليدية، التي كانت سبباً لتمتع أجدادهم بالصحة وراحة البال. وأعتقد أن ثقافة ركوب الدراجات لو إنتشرت، أو أعادت الإنتشار، هنا، فإن بإمكانها أن تحافظ على اللياقة البدنية والنفسية لأهل الواحة. كما يمكنها أن تحافظ على قابليتهم للإستمتاع بالطبيعة المحيطة بهم، وهو ما قد يفقدوه لو إستمروا في الإعتماد على السيارات بشكل مستمر، حتى في مشاويرهم بالغة القصر.


والآن، أستعد للتحرك بدراجتي نحو واحة الفرافرة، لأبدأ حكاية جديدة...من يوميات واحد راكب عجلة.

هناك 10 تعليقات:

  1. بالتوفيق و ياريت صور للرحله كمان

    ردحذف
  2. أسلوبك الأدبى جميل جدا أنا حاسس إنى باشوف الأماكن والناس معاك . ربنا يوفقك وتكمل الرحلة على خير وترجع لنا بألف سلامه

    ردحذف
  3. الله عليك اوعدني انك تعمل الرحله مرة تانيه وتقولي اقبلها وصدقني انا هاجاي عالطول

    ردحذف
  4. جميل قوى إننا نكتشف حضارتنا وبلدنا وقد إية ممكن الأكتشاف دة يساعد فى حل خلافتنا فعلا ,ربنا يوفقك فى باقى الرحلة

    ردحذف
  5. هذه اليوميات تحتاج لأكير من قراءة، فهي تحمل رسالة عميقة، بالإضافة إلى المعلومات عن السكان وأصلهم، ورؤيتهم وحياتهم. ومنذ بداية هذه الرحلة إلى الفرافرة، وهو يهتم بعدم التصنيف، ويعبر من خلال رحلته وقراره على الاستقلالية، وعلى التفاعل مع "الحدس" الداخلي الذي جعله يقبل على هذه الرحلة "المجنونة" في نظر البعض، لأن هذا البعض، قد لا يستوعب ما يشعر به محمد، وحتي كاتبة هذه السطور لا تزعم أنها تدرك ما يعتمل في نفس هذا الشاب الحسور، ولكن ما أدركه أنه يقوم بهذه المغامرة بدافع أكبر منه، وأحترم هذه الرغبة جدا فيه. وأدعو له يوميا أن يسلمه الله من كل سوء. وفقك الله يا بني وسدد خطاك.

    ردحذف
  6. تجربة ممتازة و فريدة من نوعها ....لي اصدقاء قاموا بها بالسيارات منذ عدة سنوات و كذا مرة ..و لكن بالعجلة ...هذا هو الجديد اللي في الموضوع ....و بالفعل كما قرأت اعلاه ...اسلوبك فريد يا محمد و جميل و شيق في نفس الوقت ...ممكن تتجمع كل الصفحات عند انتهاء الرحلة بعودتك سالما" لبيتك و لناسك ...و تبقي في كتاب ..لتشجيع شبابنا الصاعد ليقوموا بتلك التجربة علي خطاك و تصبح سياحة جديدة خاصة و رياضية في نفس الوقت . بالتوفيق يا محمد و ربنا معاك و يحرسك .

    ردحذف
  7. تجربة جديدة ربنا معاك

    ردحذف
  8. God bless you my son, go a head and record every thing especially photographs to be the base for a book covering your trip. Take care son wishing you good luck Huzama and Hussam

    ردحذف
  9. إن شاء الله بالتوفيق دائما يا محمد، وشكراً على المعلومات القيمة التى قدمتها لنا من خلال إحساسك بهذه المرحلة.

    ردحذف
  10. الجميل محمد حلاوه ...وفقكم الله ورزقكم بما تطلعون اليه....الأسلوب غايه فى الروعة ...فقد احسست تماما مثلما عبر محمد عباس....

    ردحذف