السبت، 30 نوفمبر 2013

11- رحلة حول مصر بالدراجة- الداخلة- بدو الواحة

الداخلة، مثلها مثل سائر مناطق مصر، لا يقتصر سكانها على المزارعين. بل توجد نسبة من سكانها، تنتمي إلى البدو. وبالرغم من أنهم ليسوا بالأغلبية على الاطلاق، لكن وجودهم ملحوظ، وأثرهم ملموس. وقد التقيت بهم وتحدثت معهم، خلال الأيام التي قضيتها، في قرية القصر.

قبل ثلاثينيات القرن العشرين، لم يكن هناك بدو يعيشون بالداخلة، إذ كان كل سكان الواحة، من المزارعين. لكن في تلك الفترة، حلت قبيلة "الرشايدة" على الواحة. جاءت بأغنامها وجِمالها، لتستقر فيها، وتصبح وطناً جديداً لها. وكان أول ما لفت نظري عند التعامل مع بدو المناطق المحيطة بقرية القصر، هو العلاقة الجيدة التي تربطهم بأهل القرية الأصليين. والاحترام والتقدير المتبادل، والذي يظهر في تعاملاتهم، وكلامهم عن بعضهم البعض. وهي ظاهرة تستحق الدراسة، لأن مثل هذه العلاقة لا تتوافر دائماً، في أماكن اخرى كثيرة، في سائر ربوع مصر. ففي حين تجد بعض الفلاحين، في أماكن أخرى، ينظرون للبدو بارتياب شديد، ويعاملونهم بوصفهم "قطاع طرق". ويبادلهم بعض البدو النظرة المتعالية بمثلها، فتسمع منهم من يقول عن ابنته:"ياكلها التمساح.. ولا ياخدهاش الفلاح". لكنك لا تجد ذلك في واحة الداخلة. فهم، بشكل عام، يعيشون معاً في وئام، واحترام متبادل. تلمح ذلك في أعينهم، كما تراه في تعاملاتهم، مع بعضهم البعض.

حين وصل الرشايدة إلى القصر، وغيرها من قرى الداخلة، لم يكن هناك بدو غيرهم. ولم يؤدي قدومهم إلى صِدام مع السكان الاصليين. فقد كانت الصحراء المحيطة بالقرى جرداء. وكان هناك ما يسمى "بالدولاب"، يُستخدم لاستخراج المياه من الأبار الرومانية. فأستقبل الواحاتية القادمين الجدد. وأستقر الجميع. في الوقت الذي اخذت فيه الرقعة الزراعية، في الاتساع.
والرشايدة أصولهم من الجزيرة العربية، من نجد والمدينة المنورة. وهم ينحدرون من قبيلة "عبس" العربية القديمة. هاجر أجدادهم القدماء من الجزيرة العربية، وذهبوا إلى السودان، ثم نزحوا منها إلى اسوان، فسوهاج، فباريس في واحة الخارجة، وصولاً إلى الداخلة.

وهم ما زالوا محتفظين بعاداتهم الأصلية، التي جاؤوا بها من الجزيرة العربية. فعاداتهم في الأفراح، مثلاً، تختلف اختلافاً كبيراً عن عادات أهل الواحات الأصليين، ففي حين تكون الدعوة للفرح عامة، عند أهل الواحات، وتشمل القرية كلها. لكن لا يمكن للبدوي ان يذهب إلى فرح، لم يتلق الدعوة لحضوره. وفي هذه الأيام، يجلس العريس والعروسة، في الكوشة، في الأفراح الواحاتية. لكن لا يوجد اختلاط بين الرجال والنساء، في الأفراح البدوية. وتحتفل البنات فقط بالعروسة، التي تذهب لبيت زوجها مباشرة، ولا يراها الرجال. ويقوم الشباب بزف العريس حتى بيته، وقت المغرب.

ولدى الرشايدة عادة تسمى "الجَويدة". وهي عبارة عن أضحية، يقدمها المدعوون لصاحب الفرح، الذي يقوم بتجميعها، وذبح الكمية التي تكفي المدعويين. ويحتفظ بالباقي. وهناك لعبة، تسمى "الزريبي". يقف فيها المدعوون في الفرح صفين متقابلين، ويتبارون مع بعضهم البعض، عن طريق القاء الشعر، والقصائد.

وكانت الأفراح البدوية تشمل سباق "الهجن"، الذي تحول الآن لسباق في المشي، أو العدو. ويحظى الفائز بأفضل قطعة لحم، والتي عادة ما تكون الكبد، ثم يذهب بها إلى والدته، ويقدمها لها، وهي جالسة وسط سائر "الحريم".

وللبدو قوانينهم العرفية، حيث يقومون بحل مشاكلهم، عن طريق عقد جلسات عرفية، يحضرها المشايخ. ويتولاها قضاة منهم، معاهم مستشارين. وهم يقومون باصدار الأحكام، وفقاً لشهادات الشهود، وأدلة الثبوت.

ولنضرب مثالاً على ذلك، فإذا ما قام شخص، بسب شخصاً أخر بأمه. أي كال له سباباً، يعد اتهاماً يتعلق بالشرف. فيقوم القاضي أولاً بالتحقق من صحة الواقعة، ومن كون المتهم قد قام بهذا فعلاً. وعند ثبوت التهمة، يقوم القاضي بتخيير المتهم، بين أن يشتري لسانه، أو يتم قطعه. بمعنى ان يدفع لمن تعرض للسباب، مبلغاً من المال، يرتضيه هذا المضرور، أو أن يتعرض لسانه للقطع.
أما لو رفض المتهم اللجوء للقضاء العرفي من الاساس، ولم يقبل الخضوع لأحكامه، تطبق عليه أحكام "القُرعة"، وينطقونها بالجيم، وليس القاف. وهي تقتضي نبذ المتهم من المجتمع، ومنعه من دخول اي بيت، غير بيته. لكن قد تُحل هذه الأزمة، عن طريق ضرب المتهم، بدون أن يتدخل أحد من أهله، لحمايته.

وفي حالة جرائم القتل، يُقتل القاتل وحده، دون غيره. فلا يتعرض أي من اخوته أو اولاد عمومته لأي أذى. كما يمكن للقتل أن يطاله، مهما طال الزمن. أما في حالة القتل الخطأ، فيمكن لأهل القتيل الاكتفاء بالحصول على الدية، إذا ما رضوا بذلك. وهي عادة ما تكون مائة ناقة، أي ما يساوي حوالي مليون جنيه اليوم.

هذه بعض عادات البدو الرشايدة. وهم غالبية البدو في واحة الداخلة. لكن هذا لا يمنع من وجود بعض البدو من قبائل اخرى، كالشرارات، والمطير، والعوازم. وهم إن كانوا اقلية في الداخلة، فلربما يكونوا أكثرية في واحات وأماكن أخرى. كما إنهم قد يتفقوا مع الرشايدة في بعض العادات والتقاليد، ويختلفوا معهم في البعض الآخر.

وقد عرفت من خلال كلامي، مع بعض أهل القرية، من الفلاحين والبدو، أن البدو، لم يستخدموا السلاح، سوى مرتين فقط.

كانت المرة الأولى، خلال فترة الإنهيار الأمني، الذي صاحب قيام ثورة يناير. فقد جاء بعض المسلحين من الصعيد، وإختطفوا بهائم من بعض سكان القرى الأصليين. كما قام بعض تابعيهم بشراء بهائم من بعض الأهالي، الذين سرعان ما أكتشفوا أن النقود مزورة. ولما لم يكن لديهم القدرة على مطاردة المسلحين، لأنهم لا يمتلكون سلاحاً. فقد لجأوا إلى جيرانهم البدو. ونظراً للعلاقة الجيدة، التي تربطهم ببعضهم البعض، فقد قام البدو بمطاردة اللصوص على الطريق، ووسط الجبال، حتى نجحوا في الإيقاع بهم في النهاية، وأستردوا المسروقات.

كما استخدموا السلاح لمرة ثانية، تعرض فيها أهل الواحة للبلطجة من بعض الوافدين المسلحين، فقام البدو بالتصدي لهم ايضاً. وتم حل الأزمة عن طريق القضاء العرفي البدوي.


وأعتقد أن طبيعة أهل الداخلة السمحة، ساهمت في إحتوائهم للبدو الوافدين. وبادلهم البدو ذلك، فعاشوا معاً في سلام. وذلك على الرغم من الإختلاف الكبير بينهم، في الطباع وأسلوب الحياة. ولو إنتبهنا لهذه العلاقة، وحللنا أسبابها، لربما نجحنا في فض الإشتباك، في كثير من المناطق المحتقنة، اليوم، في مصرنا الحبيبة. والتي يتدهور فيها الوضع، نتيجة فهم الشخصية البدوية، بأنها تميل للعنف والجنوح بطبيعتها. في حين توضح تجربة قرية القصر، وغيرها من القرى في الداخلة. أن البدو، مثلهم مثل غيرهم من البشر، يجنحون للحياة الهادئة المستقرة، طالما توافرت لديهم أسباب الاستقرار. وأنهم حين يجدون من يتعامل معهم بإحترام، وإخوة، فإنهم يعاملونه بنفس الطريقة. وحينها، لا يكون الإختلاف سبباً للشقاق والتنابذ، بقدر ما يكون داعياً للتكامل، بين أساليب مختلفة للحياة.

الجمعة، 29 نوفمبر 2013

10- رحلة حول مصر بالدراجة- الداخلة- القصر


تقع قرية القصر، على الطريق المؤدي إلى موط، عاصمة الداخلة. وهي موجودة على الخريطة السياحية، بسبب إحتوائها على مدينة القصر الأثرية الإسلامية. ولولا وجود هذه المدينة الأثرية فيها، لكنت قد مررت عليها من على الطريق الرئيسي، مرور الكرام. ولكانت قد فاتت علي فرصة دخول هذه القرية، التي عشت بين اهلها، ورأيت منهم، وعرفت عنهم، ما جعلني أشعر أنني في بيتي، بحق.

في النصف الأول من الثمانينات، أصبحت القصر الإسلامية، وهي المدينة القديمة الموجودة داخل قرية القصر، والتي ترجع للقرن العاشر الهجري، مدينة أثرية. وبذلك أصبحت تابعة، بشكل او بآخر، لوزارة الآثار. وأصبح من غير المسموح، أن يقوم أصحاب المنازل بإجراء أي تعديل على البيوت، أو داخلها، أو التصرف فيها، بدون موافقة الوزارة. لم ينزح كل أهالي القرية منها، حيث اختار البعض ان يبقوا فيها، ولكن تدريجياً، ومع مرور السنوات، لم يبق فيها إلا عدد محدود جداً من السكان. وبرغم ذلك، فحين سرت في دروبها وحاراتها، شعرت وكأنني اشاهد الصبية يلعبون. وأهل البلد يغدون ويروحون. النساء يتخاطبن من أسطح البيوت، وأصحاب الدكاكين يبيعون السلع التقليدية، ويجلسون أمام دكاكينهم يرحبون بالمارة، بسماحة واضحة، مازالت تميز أبنائهم واحفادهم، من أبناء القرية الحاليين.

حكى لي أحد كبار السن من أبناء القرية. والذي كان قد قضى طفولته وشبابه في المدينة القديمة، كواحد من سكانها، أن أهالي البلدة كانوا يجلسون على أسطح منازلهم، في أمسيات الصيف. ولأن المنازل مبنية قريبة من بعضها البعض، ومتلاصقة، فكان أهالي البيوت الموجودة في أول المدينة، يتمكنون من سماع حديث أهالي البيوت الموجودة في آخرها، مع بعضهم البعض، بوضوح. فالقصر القديمة، وفقاً لتعبيره، كانت مبنية بشكل يجعل كل أهلها يعيشون بشكل متقارب، وكأنهم عائلة واحدة. وهو ما كانوا يشعرون به، بالفعل. وهو يتأمل في كون أجداهم قد بنوا القرية باستخدام الطوب اللبن، وليس الحجر. مع ان الحجارة قريبة ومتاحة، في الجبل. فيعبر عن تصوره بأنهم قد فعلوا ذلك، نظراً لأن الطين قريب جداً من الإنسان، بحيث يشعر بأنه قريب منه، يشبهه، وكأن هناك صلة قرابة بين ساكن البيت، وجدرانه. ويقول بتأثر، مؤكداً على كلامه، أن جدران الكثير من البيوت، قد بدأت في التشقق، بعد أن هجرها سكانها، وذلك على الرغم من عدم وجود اي مياه جوفية في المنطقة المحيطة بالمدينة. وهو ما لا يجعل هناك اي سبب مادي، وفقاً لتعبيره، يؤدي إلى تشقق الجدران. يفسر هو ذلك بأنه شكل من اشكال تعبير الجدران عن حزنها، على فراق ساكنيها.

وكان سكان المدينة يحصلون على الماء عن طريق"السقا". كما تحتوي المدينة على نظام تبريد فعال للغاية. ففي الوقت الذي قد تكون فيه درجة الحرارة مرتفعة جداً بالخارج، ينعم من يسير في طرقات المدينة، بدرجة حرارة معتدلة جداً، ونسمات عليلة.

والمباني المكونة من طابقين، أو ثلاثة، مصممة بشكل يجعل درجة الحرارة داخل المدينة، أقل بكثير عنها خارجها. فأغلب الشوارع مسقوفة. وتوجد فيها فتحات. ويتم تصميم الفتحة بحيث تقع بين حائطين في سقف أحد دروب المدينة. ويكون الحائط القبلي أطول من الحائط البحري. بحيث يصطدم الهواء الآتي من الجهة البحرية بالحائط القبلي، فينزلق إلى اسفل، مُحدثاً تيارات هوائية، تجعل من يسير في طرقات المدينه يشعر بها وكأنها مكيفة.

وهناك أعتاب خشبية تعلو ابواب البيوت، مكتوب عليها اسم صاحب الدار، وبانيها، وتاريخ انشائها. وقد سميت دروب المدينة وحاراتها، بأسماء قاطنيها، مثل حارة القرشيين والجزارين، والحبانية. وكل لكل منها باب، يتم اغلاقه، لحماية السكان.

وهناك مسجد، بسيط لكن بديع، به ضريح للشيخ نصر الدين، الذي يعرف المسجد نفسه باسمه. ويبلغ ارتفاع المأذنة، حوالي 21 متر. وهي ترجع للعصر العثماني، لكنها تتبع نمط المآذن في العصر الأيوبي.

كما توجد بناية كبيرة من طابقين مشيدة بالطوب اللبن. يُعتقد أنها كانت مدرسة. حيث شيدت على طراز المدارس الاسلامية القديمة، ذات الإيوان الواحد. و من المحتمل أيضاً، أنها كانت إحدى قاعات بيت الضيافة، الملحقة بالقصور العثمانية. ويعرف المبنى حالياً باسم المحكمة، نظراً لأنه استخدم كمحكمة، فيما بعد. وبه مكان للقاضي، وغرفتين كان يتم استخدامهما كسجن للمجرمين. وهو يحتوي على مكتبة للكتب القديمة. وقد استخدم بعد ذلك كمدرسة لتعليم القرآن للأولاد.

سرت، حتى وصلت لمنطقة في وسط المدينة، في حارة عائلة خلف الله، وجدت فيها عصارة للزيتون، كانت تستخدم لاستخراج الزيت. وهي تعد من أهم العمائر المستخدمة في الحياة اليومية بالمدينة. وتتكون من جزئين، آلة لجرش الزيتون، وأخرى لعصره.

ويتذكر عبد الرازق، موظف الآثار الذي اصطحبني خلال جولتي بالمدينة، طفولته وصباه بالمدينة. ويقول أنه بعد أن أصبحت المدينة على قوة وزارة الآثار، بدأ الناس تدريجياً في مغادرتها، وبخاصة بعد أن ضاقت بهم البيوت، مع زيادة عددهم. وسكنوا في رحاب قرية القصر.

وتحتوي القصر ،مثلها مثل سائر قرى الداخلة، على حقول للقمح والشعير والأرز والنخيل، وغيرها من الزراعات، التي تحيط بالقرية، بشكل فائق الروعة. وفي الماضي،كانوا الزراعة تتم بدون كيماويات، وباستخدام الأسمدة الطبيعية فقط. وهو ما كان له بالغ الأثر على صحة الناس، وتمتعهم بالقوة الجسدية. أما الآن، فقد تغير الوضع، بسبب استخدام الكيماويات في الزراعة.

وشكا لي أحد الأهالي من صعف المستوى الطبي بمستشفى القرية. حيث يتم ارسال الأطباء حديثوا التخرج للعمل بها. مما يعرضهم للتعامل مع حالات تتطلب خبرة، لا تتوافر لديهم. فلا يكون امامهم سوى إحالة الحالة لمستشفى موط، وهي لا تختلف كثيراً عن مستشفى القصر، وفقاً لكلامه. أما الوضع الأمثل، فهو أن تتم إحالة الحالة لمستشفى أسيوط، بحيث يحظى المريض بفرصة ركوب سيارة الاسعاف، التي تتوافر بها اجهزة وخدمات طبية متقدمة، ربما لا تكون متاحة في مستشفى القصر، أو حتى في موط.
وسمعت قصة طريفة عن دخول الراديو لقرية القصر، منذ زمن بعيد. ففي البداية، دخل الراديو بيتين فقط من بيوت القرية، ولم يكن بالقرية كهرباء من الأساس. فكان على صاحب الراديو العثور على طريقة لشحنه، كي يتمكن أهل القرية من الاستماع اليه، حين يتجمعون في الساحة أمام داره، في المساء. وضع الرجل ما يشبه البطارية، التي يتم شحنها عن طريق دينامو، يعمل من خلال إسطوانة يدوية (تسمى بالدولاب). فكان الأطفال يعودون من المدرسة، ليتبادلوا العمل، بهمة ونشاط، على تدوير هذا الدولاب، كي يتم شحن البطارية. بحيث يتمكنون من الاستماع إلي الراديو مع الكبار، في المساء، إذا ما لم يغلبهم النوم، قبل ذلك.

والأعياد، عند اهل القرية، لها إحتفالات تقليدية خاصة، إذ يخرج اهل القرية، ويتم قرع الطبول، والتوجه لزيارة القبور، واضرحة الأولياء. وقد كانت الأعياد تعد بمثابة موسم للأفراح، التي كانت تستمر لمدة ثلاثة أيام، كما كان يستخدم فيها المزمار، والطبل البلدي. والأفراح هناك تكون الدعوة فيها عامة، تشمل اهل البلد كلهم.

ويقال أن "القرشية"، الذين تعود أصولهم إلى الجزيرة العربية، كانوا أول من وفد على القرية، مع وصول القبائل العربية، لهذه المنطقة. وتنتسب اليهم، الكثير من عائلات القرية، مثل عائلة كساب، والعمد، وحمد وخلف الله، وغيرها. كما يحكى أن هذه المنطقة لم يكن فيها سوى عدد قليل للغاية من السكان، لدى وصول اجدادهم القدماء للقرية، لم. وقد قاموا ببناء المدينة القديمة، على أنقاض معبد فرعوني قديم.

وقد حكى لي أحد شباب القرية عن أسطورة، يتحاكاها البعض، في القرية والمناطق المحيطة بها، تحكي عن كنز مرصود، في منطقة تسمى بـ "عين الحجر". الكنز مكون من آثار فرعونية، مخبؤة في هذه المنطقة، ولا يمكن لأي شخص العثور عليها، مهما حاول. ولكن، في لحظة معينة، ومع شخص معين، تنشق الارض عن هذا الكنز، وتظهره لهذا الشخص، الذي لا يسعى للعثور على الكنز، وإنما يكون سائراً وهو شارد الذهن، ليفاجأ بالأرض تنشق امامه، وتقوده إلى سرداب يقوده إلى معبد دير الحجر. ليأخذ "إللي فيه النصيب" من آثار ويمضي.

قد تبدو هذه الأسطورة سخيفة، بالنسبة لكثير من سكان المدن الكبرى. لكنها في الحقيقة لا تختلف كثيراً عن أسطورة إرسال رسالة بجنيه من على تليفونك المحمول، لتفوز بمليون جنيه، تهطل عليك من السماء، بدون عناء. ولا تتمثل القضية، بالنسبة لي، في إذا ما كان هناك ثمة إحتمال ان تفوز بمليون جنيه في المسابقة، أو إذا ما كان هناك كنزا خفي من عدمه. لكن ما يسترعي إنتباهي، هو أنه يبدو ان "الاسطورتين" تجمع بينهما نفس الحاجة النفسية البشرية، للعثور على حل يخرق المسار الطبيعي للأمور، ويمنحنا "الخلاص" من مشاكلنا الحياتية، بأسرع وقت ممكن. أشعر أننا، بذلك، ننسى أن رحلة الحياة نفسها، بكل ما فيها من سراء وضراء، هي المقصودة. لاننا نتعلم ونتطور من خلال كل ما نجابهه في هذا الحياة. والحلول السريعة، قد توفر علينا الكثير من المشاكل، لكنها تحرمنا من التعلم، والاستفادة، من تجاربنا الحياتية.

ويتسم مجتمع القرية بالترابط، فما ان يتعرض أحد أبنائها، أو بناتها، لإعتداء من خارج القرية، حتى تهب القرية كلها لنجدته.  وقد لمست درجة كبيرة من الطيبة والسماحة والكرم، سواءمن خلال تعاملات سكان القرية مع بعضهم البعض، أو مع الغرباء، أمثالي.

والقصر، مثلها مثل كل القرى المحيطة بها، لها لهجتها الخاصة، التي لا تخطئها أذن أهل الداخلة الأصليين. فالواحد منهم بإمكانه أن يعرف من أي قرية انت، بمجرد سماع حديثك. وقد استطاع أهل القصر الحفاظ على عاداتهم، إلى حد بعيد، في مواجهة تقلبات الزمن. ولربما ساعد على ذلك أن القرية لم يسكنها وافدون من الخارج، إلا قليلاً جداً. لكن في المقابل، غادر عدد كبير جداً من أهل القرية، إلى خارجها، بحثاً عن لقمة العيش. ويتركز معظمهم في الكويت، وحي دار السلام، بالقاهرة.
القصر مكان غير عادي، دخلتها لأقضي فيها ساعتين، أو ثلاثة، وأرحل. فقضيت بها عدة أيام. ولولا أننني كان يجب علي أن أرحل، كي أستكمل رحلتي حول مصر بالدراجة، لما فارقتها، بهذه السرعة، أبداً. لقد دخلت هذه القرية وحيداً، لا أعرف فيها أحداً. فخرجت منها، بعد عدة أيام، وقد أصبح لي فيها أصدقاء، يعاملونني كأخ لهم، وأعتبرهم إخوتي.

إن كان هناك مكان قد أحببته منذ إنطلقت بدراجتي من القاهرة، في الأول من نوفمبر؛ فهذا المكان هو " القصر".



الأربعاء، 27 نوفمبر 2013

9- رحلة حول مصر بالدراجة- الداخلة- المعبد والمقبرة الرومانية

أستيقظت، حيث خيمت، على الطريق المؤدي إلى موط، عاصمة واحة الداخلة، وحزمت أمتعتي، لأنطلق بدراجتي. مررت على حقول جميلة، ومزارع بديعة لها ابواب بدائية الصنع، لكنها في غاية الذوق والجمال، بعض أجزاء الطريق محفوفة بالأشجار من الجانبين، وبعضها تحيط به تجمعات مائية، فيما يشبه الجداول الصغيرة. تليها أراضي غير مزروعة وما زالت بكراً، تنتظر من يزرعها. السير بالدراجة هنا، منعش للغاية.

أصل إلى لافتة على الطريق تشير إلى طريق آخر جانبي، يفضي إلى "معبد دير الحجر". أسير فيه، عابراً قريتين، وأخرج إلى مساحة صغيرة، غير ممهدة. تفضي إلى طريق يبدو عليه أنه كان ممهداً، لكن كسته الرمال. أقابل رجلاً على موتوسيكل قادم من الجهة المقابلة. أسأله على دير الحجر، فيستدير ليقودني إلى المعبد. يترك هو دراجته البخارية في الخارج، كما أترك أنا دراجتي الهوائية، وندخل معاً. ينادي  الرجل على حارس المعبد، عادل، الذي يصر على أن أجلس، كي أشرب كوباً من الشاي، قبل أن يصحبني معه، في جولة بالمكان.

يقع المعبد قبل مدينة (القصر) الإسلامية بنحو 15 كم . وقد شيد بالحجر الرملى فى العصر الرومانى، في عهد الإمبراطور نيرون. وكرس لعبادة آمون رع, و كان يعرف باسم (ست إعح) أى (مكان القمر). المعبد محاط بسور، وبداخلة اعمدة، كما يحتوي على قدس للأقداس، تم تشييده في فترة لاحقة، وفى عهد امبراطور آخر، هو دومتيان.

المعبد، وإن كان قد شيد في العهد الروماني، لكن عناصره المعمارية مماثلة  للمعابد المصرية في عهد الدولة الحديثة (الأسرة 18). وهو ما يشي بإمتداد تاثير الثقافة المصرية القديمة، حتى العهد الروماني. لدرجة أن جدرانه مزدانة بمناظر تمثل العديد من الأباطرة الرومان، وكل منهم يتعبد للآلهة المصرية القديمة، أو يقدم لها القرابين. عجيبة هي قدرة المصريين على إحتواء الثقافات الأخرى الوافدة عليهم، بما فيها ثقافات الغزاة.

وقد قامت إحدى البعثات بكشف الرمال عن معبد دير الحجر. فقد كان معظمه مردوماً، فيما عدا بعض العمدان المرتفعة، التي قامت بعثة أثرية ألمانية، سنة 1899، بكتابة أسماء أعضائها فوق أحدها، قبل إزاحة الرمال عن المعبد. كما قام حكمدار  أسيوط بكتابة اسمه هو الآخر، على أحد الجدران. بالإضافة إلى شخص أخر كتب اسمه، وأرخه بسنة 1922. ويبدو أن عادة تشويه الآثار عن طريق كتابة الناس لاسمائهم عليها، لا تقتصر على شريحة من المصريين فقط، بل تتخطاهم إلى بعض الأجانب، بما فيهم من يعملون في التنقيب على الآثار منهم. كما لا يبدو أن المنصب الرسمي لذلك الحكمدار، ومستوى التعليم المرتفع الذي ينبغي أن يكون قد حصل عليه، قد حالا دون ممارسته لتلك العادة الذميمة... لك الله يا مصر.

خرجت من المعبد، لألتقي بـ"اليساندرو"، رجل إيطالي بصحبة زوجته، أو صديقته، لا اعرف. أبدى إهتماماً كبيراً بالدراجة، وسألني من أين جئت؟ حكيت له عن رحلتي، وإهتم بتسجيل اسم مدونتي، كي يحكي لأصدقائه المصريين عنها. تصافحنا، وتحركت بدراجتي، على نفس الطريق الذي جئت منه، متفكراً فيما رأيته في المعبد.

 نظرت أمامي، فوجدت صبية مليحة في نحو الثامنة عشر أو العشرين، تمر أمامي مسرعة. لمحتني، فأشاحت بوجهها لثوانِ، ثم نظرت ناحيتي بقدر من الحياء، لكن بثبات. وتغيرت خطواتها، فأصبحت تمشي على مهل. ابتسمت بيني وبين نفسي، فقد كان المشهد شديد الشبه بروايات نجيب محفوظ، التي تصور الحياة في القاهرة القديمة. أشحت بوجهي، وأكملت طريقي وأنا افكر في زوجتي الحبيبة، وأولادي الصغار، لقد إشتقت اليهم كثيراً. فقد تركتهم في القاهرة، منذ ثلاثة أسابيع كاملة.

مررت على قرية "الموهوب"، و لهذا الاسم قصة. إذ حكى لي أحد سكانها، والعهدة على الراوي، أن اسم القرية يعود إلى رجل ظالم، حكم القرية. فقد جاء "أحمد الموهوب" إلى هنا، من ليبيا، مع مجموعة من الناس، هرباً من الحرب بين الطليان، وعمر المختار. وتغلب هو ومن معه على أهل المكان الأصليين، الذين كانوا اقل عدداً، وحكموهم عنوة، لفترة من الزمن.

وصلت إلى مقابر المزوقة، التي تبعد مسافة بسيطة عن الطريق الرئيسي المؤدي إلى قرية القصر. وهي تعود إلى القرن الأول الميلادي، أي إلى العصر الرومانى. المقابر محفورة فى الصخر, وجدرانها مغطاة بطبقة من الجص. وقد لفت نظري نقطة تشابه واضحة بينها، بين ومعبد دير الحجر. فكل الرسومات التي تغطي جدران حجرات الدفن فرعونية، فيما عدا جدار واحد فقط، تكسوه رسومات ذات طابع روماني واضح.

التقيت بـ"اليساندرو" ورفيقته مرة أخرى. وقفنا معاً لنشاهد بئر روماني قديم، جفت مياهه. كا شاهدنا المقابر المتناثرة وسط الصخور. كان معهم مرشد سياحي، أخبرني أن الرومان كانوا يبنون جباناتهم في أماكن مرتفعة، على العكس من المصريون القدماء، الذين كانت مقابرهم دائماً تحت مستوى الأرض. أخذ اليساندرو يستفهم مني عما احمله من ماء على الطريق، أثناء سفري بالدراجة. شرحت له أنني أحمل معي حوالي 4 لترات من الماء، وقبل نفاذهم، أتزود من الشاحنات وسيارات النصف نقل التي على الطريق.

كانت هناك مجموعة من الموظفين المصريين يقومون بترميم حجرات الدفن. شاهدتهم وهم يعملون، وعرفت منهم أنهم لا يقومون باصلاح ما افسده الزمن من صور ورسومات. وإنما يقتصر عملهم على استخدام بعض المواد للحفاظ على ما هو قائم بالفعل.

ودعت اليساندرو، وسرت حتى وصلت إلى قرية القصر، ناوياً مشاهدة المدينة العربية الإسلامية القديمة هناك، ثم المغادرة كي أقضي ليلتي في "موط" مركز الواحة، والتي تبعد نحو 35 كم عن القصر. لكنني وجدت في القصر ما يدعوني للبقاء أكثر من ذلك، فبقيت بها لعدة أيام.


الاثنين، 25 نوفمبر 2013

8- رحلة حول مصر بالدراجة- الطريق إلى الداخلة

كانت الساعة قد تخطت الواحدة ظهراً حين تحركت بدراجتي من الفرافرة، متجهاً إلى الواحة الداخلة. سرت على الطريق الذي يشق الصحراء، ملاحظاً أن أغلب المركبات المارة من جواري هي موتوسيكلات. وبعد فترة، بدأت القرى في الظهور، وأخذت الصحراء من حولي تتحول، فجأة، إلى حقول عامرة بالزراعات، ترعى فيها المواشي، ويتحرك فيها الفلاحون ممتطين حميرهم، في حركة دائبة، لكنها هادئة، ومريحة للأعصاب. فيما يشبه قرى الدلتا، لكن في الأفلام العربية القديمة. مشهد انتهى في الأفلام، وفي الواقع، مع سبعينيات القرن الماضي.

بعض القري تحمل أرقام، مثل 13 و"17"، وغيرها، وبعضها يحمل أسماء مثل "الكفاح"،. ظللت أسير بالدراجة، والقرى تبدأ من حولي، لأعبر مركزها الرئيسي بما فيه من محلات تقدم بعض الخدمات الأساسية، كاصلاح الكاوتش، والقهاوي، وغيرها. ثم أصل لأطراف القرية، فإما أن تبدأ قرية أخرى في الظهور بعدها مباشرة، أو أجد نفسي محاطاً مرة أخرى بالصحراء، حتى أصل إلى القرية التالية، وهكذا.

وفي المعتاد، لا أحبذ التخييم في منطقة قريبة من القرى والمزارع. وذلك لأنني أترك دراجتي خارج الخيمة، نظراً لعدم وجود متسع لها بالداخل. ومع أنني اقوم بربط العجلة بحبل يمتد داخل الخيمة، أعقد طرفه الآخر في أكثر حقائبي وزناً، بحيث يصدر الاحتكاك بين الحبل والحقيبة صوتاً يوقظني من نومي، إذا ما تعرضت العجلة لأي محاولة سرقة، لا قدر الله. لكن على الرغم من ذلك فلا أشعر بالإرتياح لفكرة التخييم بالقرب من منطقة آهلة بالسكان، تاركاً دراجتي وحدها خارج الخيمة.

كان الوقت يمر، ولا بد من أن استقر على مكان للتخييم، قبل حلول المغرب. ما زال امامي بعض الوقت، لكن الأمر لم يكن مبشراً، فالمسافات بين القرى ضيقة، لاتكفي للتخييم. ولا ينبغي أن يهبط الظلام، وانا على الطريق.  ظللت أسير بالدراجة بين القرى، منتظراً الوصول لمنطقة صحراوية بعيدة عن العمران، لكنها لم تجئ.

وقفت عند قرية اسمها "أبو هريرة" لأشرب بعض الماء، وأسال عن فندق قريب. وبطبيعة الحال، لم يكن يوجد أي فندق هناك. وبينما كنت أستعد للخروج  إلى الطريق الرئيسي مرة أخرى، فوجئت بثلاثة شباب معهم موتوسيكل، يستوقفونني ليسألونني عن الدراجة، وعن المسافة التي قطعتها. أتعرض لمثل هذا الموقف كثيراً، لكن هذه المرة كان يبدو عليهم الاهتمام الشديد، والالحاح في الأسئلة. اعتذرت لهم عن الاجابة على المزيد من الأسئلة، وتحركت بسرعة. مشيت قليلاً أفكر أين سأبيت...سمعت صوت موتوسيكل يقترب مني، نظرت لأجدهم نفس الشباب الذين فارقتهم من لحظات، يتابعونني على الطريق كي يطمأنوا أن "كله تمام". سألتهم عن المسافة المتبقية كي أصل للخلاء بعيداً عن القرى المتتابعة، استفهموا عن السبب، ولما عرفوه، أصروا بالحاح شديد أن أبيت معهم تلك الليلة. القيت عليهم نظرة متفحصة، سألني أحدهم أكثر من مرة عن ثمن العجلة. فقد كان معجباً بها، ويريد شراء مثلها. لكن المبالغة في السؤال عن ثمن الدراجة من شخص تبدو ملامحه غير ودودة، وتعبيراته جافة، كان أمراً مثيراً للقلق. وعلى الرغم من ذلك، فقد شعرت بارتياح لقبول دعوتهم، وتوكلت على الله. وذهبت معهم.

هم مجموعة من الشباب، تتراوح أعمارهم حول العشرين. نزح كل منهم مع أهله من الصعيد، إلى هذه القرية في الداخلة. شعبان، صاحب البيت، شاب من سوهاج. يعيش وحده في هذا البيت الذي ما زال على الطوب الأحمر. وهو يعمل على اعداده، خطوة خطوة، كي يتزوج فيه. شعبان ترك المدرسة بعد الصف الثاني الإعدادي.

معتز، الذي ما أنفك يسألني عن سعر العجلة، وفد مع أسرته من أسيوط. هو  يشبه صديق لي من أسيوط أيضاً، لكن صديقي طيب القلب، ويتحلى بشخصية مختلفة تماماً. أما معتز فيعطيك انطباعاً بجاهزيته لأطلاق النار في أي وقت. يصلح لتجسيد دور الصعيدي الخطر، ذو القلب الميت، الذي قد يفتك بأعدائه دون أن تهتز له شعرة، أو هو يحب أن يبدو كذلك. في حين يصلح شعبان لتجسيد دور الشاب الصعيدي الطيب الجدع. لكن في الحقيقة، كلاهما "جدع"، كل بطريقته.

حكوا لي عن مجتمع القرية، والتي يشكل الوافدون معظم سكانها. ولأنهم كانوا شباباً صغاراً، فقد كانت معظم قصصهم  تدور حول المشاجرات بين الصعايدة والفلاحين، والتي قد تحدث من آن إلى آخر. وعن تضامن الصعايدة، وهم أقلية، في مواجهة الفلاحين، وهم الأكثرية. كما أخبرونني بأن كثير ممن يجيئون من الصعيد إلى هنا، يأتون هاربين. فهم إما مطلوبين للثأر، أو مطالبين بالأخذ به. لم يبد هذا الكلام مقنعاً بالنسبة لي. فبالتأكيد هناك اسباب أخرى كثيرة تدفع الناس للمجئ لهذا المكان، الملئ بالخيرات وفرص الحياة. لكن في نفس الوقت، بدا لي من الواضح أن الناس حين انتقلوا من الصعيد والوجه البحري إلى هنا، حملوا معهم مشاكلهم وأمراضهم المجتمعية. وعلى الرغم من ذلك، فقد خففت طبيعة المكان الرحبة، ووفرة الخير، من مجالات التنازع بين الناس.

تحدثنا عن عدم وجود شبكات محمول تغطي القرية، بحيث يضطر من يرغب في استخدام المحمول لصعود خزان ماء مرتفع، أو الخروج من القرية على مسافة  نحو الكيلومترين، حتى يمكن للشبكة أن تكون متاحة. قلت لهم أن الوجه الإيجابي الوحيد لهذا الوضع هو عدم تأثر سكان القرية ببعض المؤثرات السلبية التي قد تحملها لهم الانترنت، إذا أسئ استخدامها. قالوا أن هذه المؤثرات موجودة بالفعل عن طريق قيام بعض الشباب باستخدام التليفونات المحمولة عند الخزان أو خارج القرية، للاتصال بالانترنت. وبطبيعة الحال لا يستفيدون منها في أكتساب اي علوم أو معارف. شعرت أن بلدنا بحاجة فعلاً إلى مشروع قومي يستوعب طاقات الشباب، أينما كانوا.

جاءت مجموعة أخرى من أصدقائهم، جلسوا جميعاً يستمعون لقصيدة لهشام الجخ، تحكي عن شاب صعيدي يحب فتاة. أستمعوا اليها باهتمام شديد. مع أنهم بالتأكيد قد أستمعوا البها كثيراً من قبل. ظلوا جالسين يتسامرون، وبمجرد ان بدت مني أدنى لافتة تشير إلى شعوري بالنعاس، قاموا جميعاً في لحظة واحدة، وأستأذنوا للانصراف.

 نمت ، لكن بعد أن خضت بعض المعارك مع الناموس، فالناموس هنا يمكنك وصفه بالتوحش، وضميرك مستريح. حيث يهاجمك بمنتهى الشراسة، لكنني انتصرت عليه في في النهاية، ونمت جيداً.
صحوت، وتحركت مبكراً، حيث لم أكن بحاجة إلى حزم أمتعتي، التي لم أكن قد فككتها أصلاً بالأمس. انطلقت على الطريق، بعد أن ودعت شعبان، وشكرته.

سرت قليلاً بالدراجة، وعاد الطريق صحراوياً. واجهتني رياح جانبية مُلحة.  وهو ما دفعني إلى بذل الكثير من الجهد كي أتحرك، وتسبب في خفض سرعتي. يواجهني مطلع صعب، يتلوه منحدر طويل. جوانب الطريق بالغة الضيق، أو غير موجودة أصلاً في بعض الأحيان. وهو ما يجبرني على السير في المجرى الرئيسي للطريق. قد تمر عليك ساعة كاملة، لا يمر فيها بجوارك أكثر من سيارة واحدة، غالباً ما تكون نقل، أو نصف نقل. وبالتالي فلا توجد مشكلة في عدم وجود حارة جانبية. لكن لو زادت الكثافة المرورية على هذا الطريق في المستقبل، فلا بد من توسعة جوانبه.

أقابل رجلاً على موتوسيكل. أستوقفه كي أسأله عن أبو "منقار"، القرية التالية. أجده يغطي وجهه بما يشبه اللثام الخفيف، كي يحميه من الرمال. يسألني  إذا ما كنت مصرياً، ومن أين مكان في مصر؟ أجيبه انني قاهري من المعادي، يصدق بصعوبة انني لست بأجنبي. أساله إذا ما كان "عرباوياً"، فيوكد ذلك، نتبادل التحية، ويستمر كل منا في طريقه.

أصل إلى أبو منقار، التي تبعد نحو 100 كم عن الفرافرة، وتعتبر آخر قرية على هذا الطريق، تتبع إدارياً مركز الفرافرة. يستقبلني كمين حرس حدود. لا يصدقون أنني مصري، إلا حين يرون بطاقتي. يرحبون بي، ويتعجبون من رحلتي حول مصر بالدراجة. أتناول غداء خفيف في كافيتيريا قريبة. أفتح تليفوني المحمول وأكلم أسرتي، كي يطمئنوا علي، ثم أعيد غلق المحمول، حتى لا تنفذ البطارية. لا افتحه بشكل طبيعي إلا حين يتوافر لدي مصدر كهربائي ثابت، وهو ما لا يتوافر إلا حين أصل للواحة التالية.

تركت أبو منقار، وتغيرت اتجاهات الطريق، بحيث لم تعد الرياح تهب ضدي. تمكنت من قطع 120 كم في ذلك اليوم، معوضاً قصر المسافة التي قطعتها في اليوم السابق، بسبب تاخري في مغادرة الفرافرة.

أخيم قبل المغرب، كعادتي، وأقف بجوار الخيمة أشاهد الغروب، ما أبدعه، وما أجمل الصحراء. يبدأ الظلام في الحلول، أقف للصلاة مستشعراً السكون من حولي. أتخيل انني، وكل من يقرأ هذه الكلمات، نقف جميعاً متناثرين في هذ المكان. نصلي معاً، كل على طريقته، وبحسب دينه. طالبين، وداعين، من قلوبنا، أن يملأ الله بلدنا بالنور والسكينة والرحمة، وأن يحل عليها السلام.

أنهيت صلاة المغرب، وجمعت معها العشاء، لأنني على سفر. ثم دخلت خيمتي، لأغط في سبات عميق. كانت الرياح تهب بقوة بالغة طوال الليل،حتى أنني صحوت لاكثر من مرة على صوت ارتطامها بالخيمة بشدة. بدأت اليوم التالي، وأنا لم احصل على قسط كافي من النوم بسبب ذلك. كما كانت الرياح على الطريق جانبية، بعكس الأمس. بحيث ظلت تهب بقوة من جهة اليسار، معطلة أياي، وذلك على خلاف توقعاتي.

أقابل كميناً آخر لحرس الحدود، أصل اليه بينما الجندي يمد يده ليضع كوباً من الشاي إلى جواره. أناديه:"السلام عليكم"، ينظر إلى، ثم يشير لي من بعيد أن أنتظر. لا أعرف إذا ما كان قد سمع ما قلته بالعربية أم لا. يغيب، ثم يظهر بعد عدة دقائق وفي يده دفتر. أعرف بذلك أنه لم يسمعني، فأضحك واقول له "مصري..مصري..مش حتحتاج الدفتر"، فالدفتر يتم فيه تسجيل أسماء السياح الأجانب فقط.

 يبتسم ويقول "ما أنا برضه كنت شاكك إنك مصري، اصلي ما كنتش سامعك كويس". أجده في غاية الذوق والبشاشة. يصر على دعوتي لشرب الشاي الذي كان قد أعده لنفسه، أستجيب بعد الحاح من جانبه، واجلس مستمتعاً بمذاق الشاي بعد عناء الطريق. أسأله إذا ما كانت قد مرت عليهم عائلة فرنسية تسافر باستخدام بالدراجات. كنت قد قابلتهم على الطريق بين القاهرة والواحات البحرية، وتفرقت بنا السبل، آملين أن نلتقي مرة اخرى، وهو ما لم يحدث حتى الآن. أخبرني بأنهم قد مروا به فعلاً ، لكن من عدة أيام. أرشف أخر قطرة من كوب الشاي، وأشكر الجندي البشوش، وأكمل طريقي.

أستمر في السير على الطريق بدراجتي، ومن حولي الصحراء. فجأة تظهر مساحات خضراء، زاهية، ومليئة بالشجر والأبقار والثمار. أسمع اصوات الدواجن، وأشاهد الفلاحين بجلاليبهم يعملون في حقولهم بهمة ونشاط، وبساطة وهدوء. وتداعب انفي رائحة البساتين المليئة بمختلف أنواع المزروعات. وكما بدأت المساحات الخضراء فجأة، تنتهي فجأة. لأجد الصحراء تحيطني مرة اخرى. لتظهر مساحات خضراء مرة اخرى، بعد قليل، أو كثير، وهكذا.

أصل إلى قرية "غرب موهوب"، التي ينطقها بعض الناس هنا "ميهوب". وهي قرية نسبة كبيرة من سكانها بدو، من قبيلة الرشايدة، مثلها في ذلك مثل "أبو منقار"، التي مررت بها في اليوم السابق. سرت، حتى وصلت إلى نقطة لم يكن الطريق فيها ممهداً. كان (مدقاً)، إمتد لعدة كيلومترات. وتسبب في تأخيري، حيث كنت أرغب في العثور على مكان بعيد عن العمران، كي أخيم فيه. باقي على المغرب نصف ساعة، ولم اجد مكاناً ملائماً بعد. إذ أن كل مكان خالٍ، توجد بعده مزرعة، أو أي شئ أخر. لكن لا توجد صحراء خالية قريبة، تصلح للتخييم.

بدأت أفكر في قضاء ليلتي في أحد المساجد، سألت فعرفت أن هناك مسجداً بعد عدة كيلومترات، تحركت باسرع ما يمكن، فلا اريد أن يحل الظلام على وأنا على الطريق. وصلت الى المسجد، لكنني وجدته داخل مزرعة خالية من السكان، ناديت، لكن أحداً لم يكن هناك. نظرت للأرض المجاورة، فوجدتها عبارة عن موقع لإحدى شركات الإنشاءات الحكومية الكبرى. توجهت اليهم بسرعة، وسألتهم عن أقرب مسجد، فأشاروا لمبنى تابع لهم يقع خلفي. وعندما سألتهم إذا ما كان يمكنني المبيت فيه، إعتذروا بسبب المسئولية، ولكنهم عرضوا علي وضع دراجتي على سيارة نصف نقل تابعة لهم، على وشك التحرك، ومتجهة إلى قرية القصر، التي يوجد بها فنادق. بطبيعة الحال، شكرتهم، ورفضت عرضهم الكريم. وهم من جانبهم لم يفهموا لماذا أصر على السير بدراجتي، في حين كان بامكاني قبول عرضهم، وتوفير الجهد. لم يكن هناك متسع من الوقت لكي أشرح لهم فكرة رحلتي حول مصر، وانني قررت أن تكون رحلتي كلها بالدراجة. تركتهم وتحركت بسرعة منطلقاً على الطريق، إذ لم يبق على المغرب أكثر من عشرة دقائق. فكرت بيني وبين نفسي: "لماذا أصر على العثور على مكان أبيت فيه، بينما معي خيمتي...لست بحاجة لأحد.... الله الغني".

طوال سفري على الطريق، أبيت بداخل خيمتي، اعتدت على النوم فيها بحيث أصبحت مثل داري، أو حجرتي. لدرجة أنني قد أصبح لي نظام معين بداخلها لتوزيع اماكن الشنط والمتاع التي أصحبها معي على الدراجة. فلماذا إذن أستوحش المبيت في الخيمة؟ هل مجرد خوفي من ترك العجلة خارج الخيمة أثناء الليل، في مكان قريب من العمران، حتى لا تتعرض للسرقة،  يصبح سبباً لأن أشعر بالضياع هكذا، كما أفعل الآن. راجعت نفسي بسرعة، وحسمت أمري، وقررت العثور، فوراً، على أفضل مكان يتوافر به الحد الأدنى من المقومات اللازمة، والتخييم به.

توقفت عند الجهة المقابلة لأرض واسعة تقع بين مزرعتين. حركت دراجتي بسرعة، بحيث ابتعد عن الطريق قليلاً. بدأت أفك أمتعتي بسرعة قصوى، وصدى آذان المغرب يتردد في أذني، قادماً من بعيد. عادة ما أستغرق بعض الوقت كي أحل بعض الأربطة التي أقوم بتثبيت الكاوتش الاستبن من خلالها، عن طريق العديد من العقد. قطعت بعض الأربطة بسرعة باستخدام الـ Swiss knife. وحللت الباقين بسرعة بالغة. وفي وقت قياسي كنت قد حللت الامتعة، ونصبت خيمتي، وأدخلت كل شئ بداخلها، فيما عدا العجلة، بطبيعة الحال.

حل علي الظلام، وأنا في الخيمة. كان تخلصي من الإحساس بضرورة المبيت في مكان محاط بأربعة جدران، كنوع من أنواع الحماية لدراجتي، فاتحة خير علي. فقد منحني احساسي بانني لست بحاجة لأن أطلب شيئاً من أحد، وأنني قادر على التصرف، والتعامل بسرعة قياسية، والإعتماد على الموارد المتاحة بين يدي، شعوراً إيجابياً للغاية. فقد خيمت في مكان لا يعد آمناً، وفقاً لمقاييسي المعتادة. إذ نصبت خيمتي في منطقة جبلية، بدون أن يكون لدي الوقت الكافي كي أتحقق جيداً من المنطقة المحيطة.

منحتني هذه التجربة،على بساطتها، شعوراً بالغاً بالحرية، وبكسر حاجز آخر للخوف. تماماً  كما حدث معي في ليلتي الأولى، في هذه الرحلة، لكن بطريقة اخرى. شعرت بأنني أكتسب المزيد من الخبرة، والقوة، لمواجهة أخطار الطريق. لكنها ليست قوة نفسية، بقدر ما هي نفس اليد الكونية الرحيمة التي ترعاني وتحنو علي في لحظات ضعفي، تمنحني الآن القوة، وتحررني من مخاوفي. 


الثلاثاء، 19 نوفمبر 2013

7- رحلة حول مصر بالدراجة- الفرافرة


دخلت الفرافرة وأخذت أنظر حولي مندهشاً. كانت قد مضت على زيارتي السابقة لهذا المكان ثمانية عشر عاماً، وكان من الطبيعي أن تكون هناك أشياء كثيرة قد تغيرت خلال كل هذه السنوات. لكن كل ما خطر على بالي وأنا أقترب من المنطقة المركزية التي تشمل السوق، متخطياً أطراف الفرافرة من جهة الواحات البحرية، هو سؤال واحد لا غير: أين الواحة؟!!

كنت قد زرت الفرافرة في زيارة خاطفة عام 1996، لكن الفرافرة التي رأيتها حينذاك، ليس لها أي علاقة بما أشاهده فيها الآن. فأكاد لا أجد احداً من السكان الأصليين، وبينما كان الطابع الصحراوي للبلدة هو السائد في ذلك الوقت، لم أكد أجد له أثراً حين دخلتها بدراجتي هذه المرة.

كانت الفرافرة حينذاك صغيرة للغاية، كما كانت مباني البلدة مبنية بالشكل التقليدي، ومتراصة بشكل جميل. كان هناك وافدون من سائر محافظات مصر، يعملون في الزراعة ويستصلحون الأراضي المحيطة بالفرافرة. لكن كان بامكانك أيضاً رؤية أهل الواحة الاصليون، والتعامل معهم. متلمساً الطابع الأصيل الذي تنضح به معاملاتهم. باختصار؛ كانت الواحة في ذلك الوقت... واحة.

حين زرتها منذ سنوات بعيدة؛ كانت هناك قهوة أمامها كومة من الرمال، اضطررت أنا وصديقي الذي كان بصحبتي في ذلك الوقت لقضاء ما يقرب من الـ 24 ساعة الكاملة فوقها انتظاراً لأن يتم تحميل المكروباص للتحرك باتجاه الداخلة.كدنا نتجمد من البرد يومها، فقد كنا في يناير، لولا أن ظهر أحد أهالي الواحة ودعانا للمبيت في منزله. كان بيته، كسائر البيوت المحيطة به، مبنياً من المواد الخام الموجودة بالبيئة المحيطة. وكانت لديه غرفة منفصلة عن سائر المنزل، مخصصة للضيوف (مضيفة). اليوم، لم تعد هذه القهوة تقف متفردة كما كانت، بل أصبحت وسط سوق كامل، ولم يعد بيت هذا الرجل الكريم موجوداً من الأساس، كما لم يعد لسائر البيوت المحيطة به، والمشابهه له، وجود. فإما قد أصبح مكانها محلات في السوق، أو قد تحولت إلى بيوت أخرى، لكنها مبنية بالطوب الأحمر، وليس لها أي علاقة بالطراز المعماري الأصلي للبلدة. عرفت أن حتى الفتيات لم يعدن يرغبن في الزواج في أحد البيوت التقليدية، حيث لا يرغبن في التعرض للتراب والشمس. وصرن يشترطن السكن في شقة بالواحة. مع ملاحظة أن تكلفة بناء بيت تقليدي هي أرخص بكثير من البيوت المبنية بالطوب الأحمر والأسمنت

 دخلت السوق لأجده ملئ بمحلات الطعام وخدمات المحمول، وغيرها. معظم الباعة ليسوا من سكان الواحة الأصليين، وهناك مزيج ثقافي يجعلك لا تدرك أين انت بالضبط، فلا أنت في الصعيد، ولا الدلتا، ولا في الواحات. كان عدد سكان الفرافرة قليل جداً حتى ستينيات القرن الماضي، حيث تسببت الهجرات المتوالية في زيادة عدد السكان بشكل أخل بالتوازن بين الثقافة الأصلية، والثقافات الواردة. حتى أن احد سكان الواحة الأصليين أخبرني بأن نسبتهم إلى الوافدين قد أصبحت واحد إلى عشرة.

ذهبت لأزور البلدة القديمة وقصر الفرافرة، وجدتها قد تحولت إلى أطلال خربة، مساحتها محدودة للغاية. توجهت لزيارة بئر قديمة قريبة من هناك، فوجدت أخيراً ما يذكرني بأنني في واحة، فالبئر محاطة بحدائق في غاية الجمال، بها بعض البيوت القديمة التي ما زالت تحتفظ بطابعها المعماري التقليدي، أبوابها خشبية عتيقة، والنخيل من حولك في كل مكان. لكن يبو أن البئر لم تعد مستخدمة.

وعلى مسافة عدة كيلومترات من السوق، توجد وسط بعض الأراضي المزروعة عين للمياة الساخنة، تعرف باسم "بير6"، اسمتعت بالسباحة فيها لبعض الوقت. وشربت كوباً من الشاي مع رجل وصل من المنصورة منذ سبعة سنوات، وفي جيبه خمسون قرشاً فقط. حكى لي عن رحلة كفاحه وعمله جاهداً حتى تمكن من شراء أرض ليزرعها بجوار هذه العين. ثم لاحظ أن بإمكانه الاستفادة من موقعه بجوار عين المياه الساخنة، فصار يبيع المشروبات للسائحين، وتوسع في أعماله، وجنى الكثير من الأموال خلال الأربعة سنوات الأولى. لكن عدم وجود سياحة خلال السنوات الثلاثة الماضية أثر على دخله بشكل أساسي. هو يفكر الآن في إعادة الاهتمام بزراعة أرضه، بوصفها المصدر الأصلي لدخله. وأعتقد أننا في مصر، بشكل عام، بحاجة إلى أن نتخطى أزمة السياحة التي نواجهها، ونخلص إلى نفس النتيجة التي وصل اليها هذا الرجل. وذلك عن طريق عدم الاعتماد على السياحة بالكامل، والتركيز عوضاً عن ذلك على التنمية الزراعية والصناعية، بما يمكننا من تحقيق درجة أعلى من الإكتفاء الذاتي. وساعتها؛ حين تعود السياحة مرة أخرى، وستعود بإذن الله، سنكون أكثر استعداداً للاستفادة منها، وتطويرها. وفي حديث مع أحد السكان الوافدين على الواحة، أخبرني أن سعر الفدان هنا في حدود عشرة ألاف جنيه.وهو سعر معقول جداً، مقارنة بسعر الفدان في الوادي والدلتا.

شئ واحد لم يتغير في الفرافرة، ما زال كما هو لم تغيره السنوات. تغير ما حوله، لكنه وقف شاهداً على التغيير الذي حدث في الواحة، إنه متحف بدر.

بدر عبد المغني فنان من الفرافرة، ولد فيها عام 1958، وأحب الفن من صغره. أقام متحفاً في الفرافرة لأعماله التي يستخدم فيها الخامات الطبيعية البيئية. كان يحلم بأن تظل واحته بعيدة عن تيار التحضر، وفقاً لتعبيره، حتى لا يتغير شكل الواحة، وأسلوب الحياة فيها، وفولكلورها الشعبي. وقد أخبرني أن إحساسه بالواحة كان هو ما دفعه لبناء هذا "البيت".

يشعر بدر بالحزن لأن لم يتمكن من تغيير الشئ الوحيد الذي كان يسبب له القلق، والمتمثل في التوسع الرأسي في الصحراء عن طريق بناء مباني خرسانية. يصفها بأنها لا تتناسب مع جو الواحة، وبأن شكلها سئ.
لكن من ناحية أخرى هو يشعر بالارتياح لأن سكان الواحة الأصليين ما زالوا مرتبطين ببعض عاداتهم الأصلية. إذ يرى أن الروابط الأسرية مع الأهل والأقارب ما زالت قوية. كما يتضامن الجميع معاً في الأفراح والأحزان. ويحكي عن إحدى العادات السائدة، والتي يجتمع فيها كل أفراد الأسرة على وليمة يقيمها احدهم، ثم يقومون بجمع مبلغ محدد من كل فرد منهم، ويهدونه لهذا الشخص. وتسمى هذه العادة "جمعية العيلة". كما تجتمع الأسر في العيد على "الفتة".

. وتقيم الطرق الصوفية حلقة ذكر في العيد، ولعدة مرات كل أسبوع. وهناك طريقتان صوفيتان في الواحة، هما الخليلية والبكرية. كما توجد عدة أضرحة ، كضريح الشيخ مرزوق، والشيخ دخيل، وشيخ ثالث لم أتذكر اسمه. ويزور الناس هذه الأضرحة لقراءة الفاتحة لصاحب المقام.

وبدر سعيد بأن رامي، ابنه، مهتم بالفن، وبالعمل معه. وهو يرى أن حل ما طرأ على الواحة من تغيير، هو حب الشباب الصغير من ابنائها لها، مما يجعلهم يحافظون على ما تتمتع به من تراث.
شكرت الرجل وابنه على الجلسة اللطيفة معهم في المتحف، وخرجت متأملاً في هذا المكان، الذي كان يقف وحيداً منذ ثمانية عشر عاماً، وأصبح الآن محاطاً بالبيوت والمحلات والمقاهي. أتساءل كيف سأجد الواحة، إذا ما زرتها مرة أخرى بعد عدة سنوات.

لم تكن الواحة هي الشئ الوحيد الذي لم أجده كما كان، بعد زيارتي الأولى له. فقد حدث لي نفس الشئ مع السوق!

زرت السوق في ليلتي الأولى التي وصلت فيها للفرافرة، كان صاخباً، ومليئاً بكثير من الناس. سرت فيه بدراجتي أشاهد ما حولي، اشتريت بعض احتياجاتي، وذهبت لأبيت في الفندق. وحين عدت للسوق في اليوم التالي، لم أجد المحلات، كانت مغلقة.

في البداية تصورت أن هذا هو يوم الراحة بالسوق، لكنني وجدت عدد من المحلات المفتوحة، لم يكن عددهم يزيد عن أصابع اليد الواحدة. سألتهم عن باقي المحلات، فعرفت منهم أن هناك لجنة شاملة من وزارة التموين، مرت على الواحتين الخارجة والداخلة في الأيام السابقة، ووصلت إلى الفرافرة اليوم، وقد سببت حالة من الرعب لدى الناس، بحيث أغلق الجميع تقريباً محلاتهم، سواء كانت أوراقهم سليمة، أو كانوا مخالفين. ظننت أن هذا الأمر ينتهى في اليوم التالي، لكنني قضيت أربعة ليالي في الواحة، وعلى وشك مغادرتها، وما زالت معظم المحال مغلقة. ومن حسن حظي أنني تمكنت من شراء احتياجاتي من الطعام والشراب، التي أحتاجها معي للسفر إلى الداخلة من بقال كان مفتوحاً، يقوم أصحابه ببيع الماء واللبن والمعلبات والبسكوت للناس، وهم يشعرون بقلق شديد، وكأنهم يبيعون ممنوعات، بينما تصاحبهم دعوات المشترين لهم بالسلامة من كل أذى!

وجدت هذا الوضع غير مقبول بأي حال من الأحوال. فلو كان كل هؤلاء من المخالفين، فلماذا تركتهم الحكومة طوال هذه الفترة؟  وما هي الفائدة من لجنة تظل هنا عدة أيام، فيغلق الناس السوق الوحيد بالبلدة، هرباً منها، ثم يعيدون فتح محلاتهم المخالفة، لو كانت فعلاً مخالفة، بمجرد رحيل اللجنة؟ ثم أننا لو افترضنا أن معظمهم مخالفين ويستحقون أن يتم اغلاق محلاتهم، فما هو البديل الذي قدمته الحكومة للناس من ناحية تيسير إجراءات إصدار التراخيص، بحيث يمكن لسكان الواحة شراء طعامهم واحتياجاتهم من محلات مرخصة من قِبل الحكومة؟

كان أحد المحالات القليلة التي ظلت مفتوحة في السوق دكان للحلاقة. لا يمكنك أن تصفه بأنه حلاق، فهو بحد اقصى "مزين" أو حلاق صحة من الذين يمكنك مشاهدتهم في الأفلام العربية القديمة، الأبيض والأسود. كنت أفكر في حلاقة ذقني، لكنني لم أجد هذا الاختيار مناسباً على الاطلاق.

وجدت "دكان" أخر للحلاقة بجوار الفندق الذي أسكن به. بدا أفضل قليلاً من الدكان الأول. لكن نظرة سريعة للحلاق وهو يقف أمام محله في وسط الشارع، بشعره شبه الأشعث، وذقنه غير المحلوقة. ماسكاً الموسى بيده، وهو يلوح به متحدثاً بصوت عالي إلى شخص يقف بعيداً عنه، كانت كفيلة بأن أصرف النظر عن حلاقة ذقني تماماً.


قضيت عدة أيام في الفرافرة. والآن، أستعد للانطلاق بدراجتي إلى الواحات الداخلة.

الاثنين، 18 نوفمبر 2013

6-رحلة حول مصر بالدراجة- الطريق إلى الفرافرة

خرجت من الواحات البحرية، بعد أن قضيت بها عدة أيام، متجهاً بدراجتي إلى الفرافرة، التي تبعد عنها نحو 185 كم. اخترقت السوق بالباويطي، وسرت بين بيوت الواحة. حتى بدأت كثافة المباني تتراجع من حولي تدريجياً، وأصبحت محاطاً بالصحراء تماماً. فعرفت أنني على أول طريق الفرافرة.

كانت بداية الطريق هادئة. لم تكن الرياح في صفي، ولم تكن عكسية، وإنما كانت رياح جانبية، تأتي من جهة اليمين. وتسبب هذه النوعية من الريح إزعاجاً لقائد الدراجة، فهي تعطله، وتبطئ من سرعته. لكنها ليست بنفس درجة السوء التي تتسبب فيها تلك الرياح العكسية، التي تهب في مواجهته مباشرة. مررت على منطقة يكثر في جبالها اللون الأسود، فعرفت أنها الصحراء السوداء، لكنني لم الحظ أي لافتة تشير إلى ذلك.

بعد نحو أربعون كم، وصلت قرية الحيز. لم تكن هناك أي لافتات تشير إلى ذلك، فاستوقفت احدى السيارات للتأكد من ذلك، وسألتهم عن الكافيتيريا، فأشاروا إلي مبنى قريب. توجهت لهناك، وناديت:"السلام عليكم". بعد ثواني ظهرت سيدة، أجابتني: "وعليكم السلام". سألتها:" أم حسين؟" أجابت بنعم، فقلت لها "انا جايلك من طرف محمود عيد في الواحات البحرية"، قالت: "انت محمد حلاوة؟".... رددت: "أيوه أنا، هو محمود كلمِك؟"...أجابت: "لأ، بس الجماعة الفرانسويين قالوا لي عليك!!".

عائلة جريج هي عائلة فرنسية تسافر باستخدام العجل. أب وأم وثلاثة أطفال صغار. التقيت بهم على طريق القاهرة-الواحات البحرية. خيمنا معاً لليلة، وافترقنا في اليوم التالي، على أن نلتقي في الواحات بعد ذلك، لكننا فقدنا أثر بعضنا البعض.

أم حسين سيدة تبدو في الإربعينيات من عمرها، أصلاً من المنوفية. جاءت مع زوجها منذ سبعة عشر عاماً ليعيشوا في هذا المكان قليل الخدمات. في العام الماضي، أصيب زوجها بغيبوبة سكر، ولم تتوافر الامكانيات الطبية اللازمة لانقاذ حياته. وبين يوم وليلة، فقدت أم حسين زوجها.

تعيش مع ولديها الصغيرين في هذه الكافيتيريا التي أنشأتها مع زوجها. وأحياناً مايتواجد معها شقيقاها. يذهب الصغيران إلى المدرسة الحكومية الموجودة بالمنطقة. لا يزيد عدد تلاميذ الفصل الواحد في المدرسة عن خمسة أو ستة. كان يمكن أن يكون مستوى التعليم في المنطقة في منتهى الجودة؛ فقط لو كان المدرسون يذهبون إلى عملهم قي المدرسة بانتظام. 

لكنهم يأتون من الواحات البحرية في أتوبيس، وكثيراً ما لا تزيد نسبة تواجدهم في المدرسة، عن يومين في الأسبوع.

حكت لي أم حسين، وشقيقها الشيخ خالد، عن سعادتهم بالأسرة الفرنسية راكبة الدراجات. نزل الفرنسيون في ضيافتهم لمدة يومين، أصبح الأطفال الفرنسيين وابناء ام حسين خلالهما أصدقاء، يلعبون مع بعضهما البعض. كما حكت لي هي وشقيقها، أن جريج سألهما عني، وكان يسأل سائقي النقل الذين يتوقفون للراحة وتناول الطعام، عما إذا كانوا قد رأوا مصري يركب دراجة، اسمه محمد حلاوة. كان جريج يتصور انني قد سبقتهم على طريق الفرافرة، في حين كنت قد غادرت الواحات البحرية بعدهم بيومين أو ثلاثة، وهم الذين كانوا قد سبقوني، لكنه لم يعرف.

أصر الشيخ خالد وأم حسين على استضافتي للمبيت بالكافيتيريا تلك الليلة. كان الوقت مبكراً وما زال أمامي الفرصة كي أقطع مسافة اضافية على الطريق، لكن دفء ترحيبهم بي، بالاضافة إلى رغبتي في مشاهدة الآثار الموجودة بالمنطقة، جعلاني أحسم أمري وأقرر المبيت في هذا المكان.

جلسنا نتحدث ونتبادل التعارف، حكوا لي عن حياتهم في هذه المنطقة، وعن فرص الاستثمار والزراعة فيها، والتي لا تكاد تجد الاهتمام اللازم. وأحد مظاهر الاهمال الذي لاحظت بنفسي أن المنطقة تعاني منه؛ هو عدم توافر تغطية لشبكتي فودافون واتصالات، حيث لا توجد تغطية كافية سوى من موبينيل. وهو أمر لاحظته بداية من النصف الثاني من طريق القاهرة - الواحات البحرية. ولما كنت أحمل معي خطين، أحدهما فودافون والثاني اتصالات، كان علي أن اشتري خط موبينيل حين أصل للفرافرة، متخلياً عن استخدام خط اتصالات، الذي لا توجد لديه تغطيه في معظم الوقت. مع ملاحظة أنه حتى موبينيل ليس لديها تغطية كافية لبعض أجزاء الطريق.

قضيت ليلتي في الكافيتيريا، نائماً على سرير محاط "بناموسية". واستيقظت لأجد الشيخ خالد يستعد لاقتراض دراجة من أحد الجيران، والتوجه معي بها لمشاهدة الكنيسة الرومانية، وما حولها من آثار. حزمت أمتعتي، وشكرت أم حسين، وودعتها، بعد أن كنت قد ودعت ابنائها قبل ذهابهم إلى المدرسة، وانطلقت بدراجتي بصحبة الشيخ خالد الذي أبدى سعادته بركوب الدراجة، ورغبته في شراء واحدة كي يستخدمها للتريض والحركة طوال مدة تواجده في "الحيز".

تقع قرية الحيز في منطقة اسمها القديم هو "طبل آمون". ويشير هذا الاسم إلى الجذور المصرية القديمة للمنطقة. كما توجد بها آثار رومانية، تقع على مسافة نحو 5 كم ، خلف القرية. سرنا بالدراجتين قليلاً على الطريق الرئيسي، ثم إنعطفنا جهة اليسار لنسير عدة كيلومترات أخرى على طريق فرعي ممهد. حتى وصلنا إلى نقطة كان يتحتم علينا أن نسير منها بالدراجات وسط الرمال، كي نصل إلى الكنيسة. كان التحرك بالدراجة وسط الرمال، بكل ما عليها من حمولة، هو أمر بالغ الصعوبة، لكنني وصلت في النهاية.

وجدت كنيسة رومانية، تؤرخ بالفترة ما بين القرنين الرابع والسادس الميلادي. الكنيسة تخضع للترميم لدرجة أنها محاطة تماماً بالسقالات من الخارج، كما تملأها السقالات من الداخل أيضاً. وعلمت من الخفير القائم على حراسة الكنيسة، إنها على هذا الحال منذ فترة بعيدة، وأنها ليست المرة الأولى التي تخضع فيها الكنيسة للترميم. فقد سبق الانتهاء من ترميمها، وبينما كان المقاول على وشك انهاء إجراءات تسليمها؛ انهارت الترميمات تماماً. ويعاد ترميمها الآن، منذ فترة طويلة.

وعلى بعد أمتار من الكنيسة، فوجئت بمشهد بالغ السوء. رأيت عدة أكوام من العظام المتناثرة، التي تنضح مقاييسها بأنها بشرية، ملقاه على الرمال. وهو ما اكده لي الحارس، فقد أخبرني أنها بالفعل عظام بشرية، تم استخراجها من مقابر رومانية أثناء التنقيب عن الآثار، ثم تُركت هكذا، بعد رحيل بعثة التنقيب عن الآثار. وسواء كان كلام الحارس صحيحاً، أو أنه قد تم استخراج هذه العظام من مدفنها لأي سبب آخر، فالدولة مسئولة عن حمايتها وحفظها بطريق لائقة. فالموت له حرمته، والآثار، كلها، تستحق المعاملة بشكل افضل من ذلك بكثير.

إهمال الكنيسة وهذه المنطقة بهذا الشكل خسارة فادحة، فهي شاهد على تنوع الحضارات التي عاشت، وتركت بصمتها على أرض الواحات. وبخاصة أن الكنيسة لا تقف وحدها في هذا المكان، إذ يوجد بجوارها بئر روماني قديم. كما توجد أطلال مبنى أخر يقولون هنا عنه أنه كان ديراً، وفي رواية أخرى قصراً رومانياً. كما يوجد مصنع للخمور،يقع خلف هذا المبنى. لكنني لم أشاهد هذا المصنع بنفسي نظراً لبعده عن الطريق، بالإضافة إلى ضرورة أن أسير بالعجلة فوق الرمال لمسافة أخرى كبيرة حتى اصل إليه.  وفوق كل ذلك، لم أجد في رؤيته إضافة كبييرة بالنسبة لي، فأكتفيت بما شاهدته من آثار. وغادرت المنطقة مع الشيخ خالد،حتىى وصلنا للطريق الرئيسي، فسلمت عليه شاكراً لطفه البالغ، ومضيت لحال سبيلي، مكملاً طريقي للفرافرة بالدراجة.

سرت في سلام، سعيداً بأنه لا توجد كلاب تطاردني على هذا الطريق، حتى وصلت إلى منطقة مليئة بالمزارع على الجانبين، فبدأت أتشكك في أن الوضع سيستمر كذلك. و كان قلقي في محله، إذ تعرضت لمطاردة أو إثنتين من الكلاب، قبل ان أشاهد كلباً يقف وسط الطريق من بعيد. نزلت من على العجلة، وأخذت أرقبه كي أدرس رد فعله، كما بدا عليه هو أيضاً انه يفعل نفس الشئ. تحركت للأمام تجاهه ببطء وهدوء، اقتربت منه أكثر بحيث لاحظت أنه صغير. لكن حانت مني التفاتة للوراء لأجد من خلفي كلب آخر معه جرو صغير. رمقني الكلب الكبير بنظرة متفحصة سريعة، وبدا عليه عدم الاهتمام. اقترب مني الجرو، لكنني صحت فيه بهدوء وحزم: "هشششش". كان صغيراً ، ومن الواضح أنه كان يريد ان يلعب، ليس أكثر. لكن من ذا الذي يرغب في اللعب مع جرو، بصحبة كلب كبير تشي ملامحه وشكل أسنانه بأنه ينحدر من سلسلة حيوان أخر، قد يكون يشبه الكلب، بل وربما تربطه به قرابة من بعيد، لكنه بالتأكيد أكثر منه شراسة بكثير. وقفت مكاني قليلاً، ثم أخذت أتحرك بحذر، حتى ابتعدت عن تلك المنطقة، ثم ركبت دراجتي وأنطلقت.

بعد فترة، قابلني مطلع في وسط الجبال. كان المطلع بالغ الطول، والطريق مكسرة وغير ممهدة في الوقت ذاته. كان هذا أمراً بالغ القسوة، ولم يكن من الممكن قيادة الدراجة بشكل طبيعي في مثل هذا الوضع. فالدراجة لا تكاد تكتسب السرعة اللازمة للتحرك، بسبب وعورة الطريق وإمتلائه بالحصى والزلط، يضاف إلى ذلك ما يشكله المطلع نفسه من صعوبة شديدة. أخذت أنزل من الدراجة وأسير بجوارها، متجاوزاً بعض أجزاء المطلع شديدة القسوة، والمكسرة، ثم أركبها مرة أخرى، لأن السير بجوارها على هذا المطلع، وهي محملة بكل هذا الوزن، وفي مثل هذه الحرارة، لهو أمر لا يقل صعوبة عن ركوبها ومحاولة استكمال الصعود بها. أنهكني هذا المطلع، لكنني تجاوزته، وأكملت طريقي.

 مررت ببدايات الصحراء البيضاء، وهي محمية طبيعية تمتد على مساحة واسعة. تتميز بتكويناتها الجيرية (الطباشيرية) البيضاء، التي نحتتها عوامل الطبيعة عبر الزمان. وهي تمثل نقطة جذب شهيرة لسياحة السفاري.

 قابلني كمين شرطة، مررت بمنتهى البساطة بمجرد أن عرفوا مني، شفهياً، بأنني مصري. سالتهم عن "الجماعة الفرانسويين إللي راكبين عجل"، فكان الرد "هو انت محمد؟"، أخبروني أن جريج واسرته قد مروا من هنا، وقضوا ليلتهم عند كمين الشرطة، ,وانهم قد وصلوا الفرافرة بالفعل. كما أخبروني أن هؤلاء الفرنسيين ما زالوا يبحثون عني.

قبل الغروب بقليل. خيمت على جانب الطريق قبل الفرافرة بنحو 66 كم، وأخذت أستكشف المنطقة المحيطة بخيمتي. 

وجدت أثار أقدام لحيوان لم أتمكن من تحديده، لكنني التقطت لها صورة. كما رأيت غرابين يحلقان على مقربة مني، كل على حدة. استنتجت أنهم غربان من صوتهم ولونهم. لم يسببوا لي اي إزعاج، وكذلك فعلت أنا.

 استيقظت في الصباح وأنا أشعر بالنشاط، تحركت مستبشراً أن اصل بسرعة إلى الفرافرة، وشجعني على ذلك وجود منطقة مليئة بالمنحدرات (المنازل) المتلاحقة. وقد استمرت هذه المنحدرات لنحو الـ10 كم، قطعتها بسرعة نظراً لأن الهواء لم يكن معاكساً. ازداد أملي في أن أصل بسرعة، لكن على طريق السفر بالدراجة، لا يمكنك التنبئ بما ستواجهه، ولو بعد عدة دقائق.

فجأة، أصبح الطريق غير ممهد، مكسراً، وملئ بالحفر والشقوق. لم يكن مَطلعاً هذه المرة. كان الطريق مستوياً لكنه في حالة بالغة السوء. تصورت أن الأمر سينتهي بعد دقائق، لكنه استمر لنحو سبعة كيلومترات كاملة. أسير بالدراجة؛ فأخشى على الكاوتش من أن يتعرض لثقب، أو أن يتعرض لأي اذى أخر بسبب الحصى المتلاصق على الطريق. أنزل من على الدراجة، فأسير بجوارها ببطء شديد. أتصبب عرقاً، ولا يبدو ان لهذا الوضع نهاية. لكنه ككل شئ في الدنيا، إنتهى.

تحسنت حالة الطريق، بحيث أصبح يمكن السير عليه لكنه لم يعد ممهداً تماماً. إذ أنه يبدو أنه لا يلقى الرعاية اللازمة بأي حال من الأحوال. كانت هناك بعض الأجزاء غير الممهدة تتعرض للرصف  في مراحل سابقة من الطريق. لكن هذا الجزء مثلاً، كان ممهداً، لكنه متشقق، لدرجة أنك بين كل متر أو إثنين تصادف شقاً بعرض الطريق. لماذا تُرك الطريق يتهدور حتى وصل لهذه الحالة المزرية. هذا طريق من المفترض انه سياحي، ناهيك عن أنه يعد بمثابة شريان يتنفس سكان الفرافرة وما في جنوبها من قرى وواحات من خلاله. ظل الطريق سيئاً لفترة، ثم انصلح حاله قليلاً، مع ملاحظة أن هذا الطريق الذي يصل الواحات البحرية بالفرافرة، لا توجد بها حارة جانبية من الأساس. إذ لا يوجد سوى المجرى الرئيسي للطريق، وحالته كما وصفتها. بعض أجزاء هذا الطريق هي بمثابة جحيم لراكبي الدراجات. لكن كل هذا التعب يهون عند بلوغك مقصدك. أخيراً، اصبحت الواحة على مرمى البصر.

حلق فوقي سرب من الغربان وأنا اقترب من الواحة. وبشكل عام، الغراب طائر لا يستثير اي مشاعر لطيفة لدى أغلب البشر، وانا منهم. لكن تحليق سرب كامل من الغربان فوقي وأنا على دراجتي، كان له اثراً طيباً بداخلي. شعرت وكأنهم يستانسون بوجودي. ظللت المحهم يقومون بتشكيلات بديعة من فوقي وأنا اقود الدراجة، وهم يتحركون معي، حتى مرت سيارة بسرعة من جواري، فأختفوا على الفور.

وبعد قليل...وصلت الفرافرة