استيقظت صباح يوم
الجمعة 1 نوفمبر في مدينة 6 أكتوبر، أجريت إستبعاداً نهائياً لكل ما يمكنني الإستغناء
عنه من اشياء، بحيث تمكنت من تقليص وزن ما ساصطحبه معي من طعام، ومياه، وعصائر،
وملابس، بالإضافة إلى الخيمة وادوات صيانة الدراجة، إلى30 كجم. وهو أقصى ما يمكن
تحميله على الحاملين المثبتين بالدراجة. حزمت أمتعتي، وبدأت في التحرك في نحو
الساعة الواحدة والنصف ظهراً، أصر أصدقائي من مجموعة "أصل ووصل" على
مرافقتي لعدة كيلومترات، أنا على دراجتي وهم في سيارتهم يلتقطون لي الصور ونتبادل
المزاح وعبارات الوداع. حتى حانت لحظة الفراق، سلمت عليهم، وانطلقت... وحدي.
بطبيعة الحال، لم
تكن هذه هي المرة الأولى لي على طريق السفر بالدراجة لمسافة طويلة، فقد سافرت قبل
ذلك بالعجلة إلى أسوان، عن طريق الغردقة. لكن في تلك المرة، كان معي إثنين من
الأصدقاء. لكن هذه المرة أمر بتجربة جديدة على تماماً. شعور غريب أن تكون وحدك على
طريق سفر بالدراجة، معك بعض الأمتعة هي كل ما لديك في هذه الدنيا خلال الشهرين
التاليين من حياتك. معك خيمة هي منزلك، ودراجة هي مركبتك، وعلبة صغيرة حافظة
للبرودة هي مطبخك ومستودع أدويتك.
كنت أدرك أنه ليس
امامي سوى ثلاثة ساعات على الأكثر، قبل ان أضطر للتوقف عن السير قبل الغروب،
والبحث عن مكان مناسب للتخييم. سرت محاولاً التعود على التحرك بسرعة رغم الحمولة.
لكن واجهتني مشكلى عجيبة.
الدراجة بها
ثلاثة نقلات تروس امامية، وتسعة خلفية، يتم التحكم بها من خلال ناقل السرعات
المثبت في مقبض الدراجة (الجادون). يمنحك ذلك نطاقاً واسعاً من النقلات يناسب
مختلف الظروف. فإذا كنت تسير على مطلع، فالأفضل لك النقل على الترس الأمامي
"1"، اما إذا كنت تسير مندفعاً على الطريق، فيمكنك إجراء نقلة إلى الترس
الأمامي "3"، وذلك كي تكتسب المزيد من السرعة.
تمثلت المشكلة
التي واجهتها في أن ناقل السرعات الخاص بالثلاثة تروس الأمامية أصابه عطب، وصار
ثابتاً عند الترس"2"، وهو ما يعني أنني سأسير على سرعة متوسطة، لا
يمكنني ان أسرع إذا إحتجت للتحرك بسرعة بالغة (إذا ما تعرضت لهجوم من كلاب مثلاً)،
كما لن يمكنني تخفيف الحمل على ساقي، في حالة السير بالدراجة على أحد المطالع، عن
طريق إجراء نقلة إلى الترس "1". ستختزل كل قدرتي على المناورة في نقل
التروس الخلفية، وهو ما لا يكفي في مثل هذه الرحلة بأي حال من الأحوال.
سرت بصعوبة نتيجة
الأحمال، لكن بدون مشاكل. وفجأة، سمعت صوت نباح فالتفت خلفي إلى اليمين لأجد كلباً
يتحرك منطلقاً نحوي. أطلقت لساقي العنان مبدلاً باقصى سرعة. تمكنت في الهروب منه،
بعدها مباشرة واجهني أحد المطالع، فهدأت لألتقط أنفاسي بعد أن تأكدت من أنه توقف
عن مطاردتي تماماً. لأفاجأ بمجموعة أخرى من الكلاب تهبط بهدوء من أعلى المطلع
متجهة نحوي. لم يكن هناك مفر من التراجع قليلاً إلى الوراء. رجعت بما يكفي
للإبتعاد عن نطاق هذه الكلاب، مراعياً ألا أكون في مرمى بصر الكلب الأول. ثم وقفت
لأفكر كيف أخرج من هذه الورطة. كنت أدرك أن الكلاب تنتظرني ولن تبارح مكانها. ظللت
مكاني لعشرة دقائق، ثم واتتني فكرة.
نظرت إلى الجانب
الأيسر من الطريق، فوجدت شريط قطار الواحات يمر على بعد نحو 30 متراً من الطريق.
دفعت بالدراجة نحو الرمال. كان تحريكها بين الرمال والحصى أمراً بالغ الصعوبة
نظراً لما عليها من أحمال. وصلت بها إلى شريط القطار، ثم وضعتها على احد القضبان
بحيث أتحرك بها أسرع مما سأفعله لو سرت بها على الرمال، مستغلاً وجود تبة رملية
تحجبني عن الكلاب. لم أتمكن من الثبات على شريط القطار نظراً للسرعة التي اتحرك
بها. إستمررت في الحركة بين شريط القطار والرمال، حتى وصلت للنقطة التي تقع في
مواجهة الكلاب مباشرة، فإذا بتبة الرمال تنتهي، لتشاهدني الكلاب، وتجري نحوي، وهي
تنبح بصوت عالي، ومن خلفها رجل يلوح لي من بعيد وهو يصيح. إقتربت الكلاب للغاية.
أصبح الهروب من الكلاب والعجلة وسط الرمال ضرباً من المستحيل. وقفت مكاني، مدركاً
أنه لا مفر. أخرجت عصا صغيرة أحملها معي، نطقت بالشهادة ووقفت مكاني مستعداً
للدفاع عن نفسي حتى النهاية. إقتربت الكلاب اكثر ووقفت على التلة التي كنت أحتجب
عنها بها. أخذت أصرخ في الكلاب بصوت غاضب وبلهجة آمرة
"ابعد...ابعد....ابعد"..في نفس الوقت كان الرجل الذي يلوح من بعيد قد
وصل إلى الكلاب، وأخذ في السيطرة عليها وإبعادها، موضحاً أنها تأتي إليهم أثناء
قيامهم بالحراسة، فيقومون هم بإطعامها، وان الموقف تحت السيطرة.
بدأت في التحرك
مرة أخرى، وأنا أكثر حذراً وقلقاً من ظهور كلاب. لكن لم تظهر كلاب أخرى. وفي نحو
الساعة الرابعة والنصف؛ بدأت في البحث عن مكان لأقضي فيه ليلتي الأولى على الطريق.
إخترت موقعاً هادئاً على الجانب الأيسر، ونصبت خيمتي، ثم وضعت بها كافة متعلقاتي،
تاركاً العجلة خارج الخيمة، بعد أن ربطتها في حبل طرفه الاخر معي في الخيمة.
خيم الظلام،
وبدأت اشعر برهبة شديدة. أضأت المصباح، ومددت جسدي في الخيمة ناظراً إلى سقفها.
شعرت وكأني أنخلع عن حياتي بأسرها، ما أحبه منها وما لا احبه. إنتابني شعور بالغ
بصعوبة التجربة التي أنا مقبل عليها. شعرت بالخيمة، التي ضاقت علي، وكأنها تابوت.
عادة ما لا يضايقني الشعور بالوحدة، بل على العكس. لكني هذه المرة أشعر بوطأة هذا
الشعور وأنا جالس وحدي في خيمتي، يحفني الظلام من كل جانب. الوحدة قاسية هذه المرة
لكنها تبدو حقيقية أكثر من أي شئ أخر. اشعر أن جزءاً كبيراً من الأنشطة التي أمارسها
في حياتي ما هي إلا محاولة للهروب من هذا الإحساس بالوحدة، الذي ليس امامي الآن
سوى مواجهته، والتعايش معه. شعرت بالتقدير الشديد لحياتي العادية، وبأهمية الأشخاص
المحيطين بي في حياتي، ربما كما لم أفعل في حياتي من قبل. كنت بالخيمة أشعر بالخوف
مما ينتظرني بالخارج. كان الظلام دامساً، بدا لي عالمي هو الخيمة، ولم اكن سعيداً
في هذا العالم الضيق، لكنني في نفس الوقت كنت اشعر بالخوف مما هو خارج هذا
العالم...خوف من المجهول الذي لا يبشر بالخير أو الآمان.
أخذت أدعو الله
ان يهون علي مصاعب رحلتي، وأن يعينني على المضي في الطريق الذي إخترت السير فيه.
هدأت قليلاً، فشعرت برغبة في الخروج من الخيمة والتطلع إلى السماء. نظرت إلى
السماء مستنشقاً الهواء النقي المحيط بي من كل جانب. بدأ الإحساس بالطمانينة
والهدوء يتسلل إلى جوانحي. شعرت بالآمان خارج الخيمة أكثر من داخلها. بدا وكأني في
منتهى بحثي عن الآمان، كنت احجب نفسي عن مصدر الآمان. عدت من خارج الخيمة إلى
داخلها وأنا افضل حالاً بكثير. نمت ليلتي بشكل معقول، لأستيقظ وأبدأ السير بالعجلة
مرة أخرى.
استيقظت على صوت
أشخاص يتحدثون بصوت مرتفع. كنت قد خيمت في مكان هادئ تماماً وبعيد عن العمران،
فخرجت من الخيمة للتحقق من مصدر الصوت. كانت الشبورة شديدة الكثافة بحيث لم أتمكن
من الرؤية أبعد من عدة امتار. بعد قليل أصبحت الرؤية اوضح، وأكتشفت أن هناك سيارتي
نقل ضخمتين تقفان على جانب الطريق، يتبادل سائقاها وتباعاهم الحديث معاً عن بعد.
بعد زوال الشبورة تحركت سيارتي النقل لتسيرا على ما بدا أنه طريق صغير وسط الرمال
(مدق)، وأنضمت لهم سيارات أخرى بعد قليل. زودتني إحدى هذه السيارات بالمياه. شربت
حتى إرتويت، وملاًت زجاجاتي الخالية، ثم حزمت أمتعتي وأنطلقت.
سرت بنشاط أكثر
من اليوم السابق، كما بدأت في التعود على الحمولة. وكنت قلقاً من نفاذ مخزوني من
المياة، لكنني كلما إحتجت للماء،كان سائقي
النقل المتوقفين على جوانب الطريق يزودنني به بكرم بالغ. حاولت إصلاح ناقل السرعات
كي يعمل بشكل طبيعي وينقل السرعة إلى "1" للابطاء أو "3"
للإسراع، لكنه ظل معطلاً.
كلما كنت أسير، كنت
أشعر برئتي تتسعان وتتخلصان من التلوث الذي حاق بهما نتيجة الحياة بالقاهرة. شعرت
بهما تتفتحان وتزداد قدرتهما على إستقبال الهواء النقي المحيط بي من كل الجوانب.
هاجمتني الكلاب
عدة مرات، ونجحت في الإفلات منها بفضل الله. لكن أعجب تلك المرات كانت كالتالي.
كنت أستفسر من
إحدى سيارات النقل المتوقفة عن مكان الإستراحة الموجودة على الطريق. سقاني السائق
ماءً، وشكرته. تحرك هو بسيارته مبتعداً ،ثم بدأت أنا في التحرك ببطء. أخذت عدة
خطوات للأمام، وقعت عيني على الجانب الآخر للطريق، لأجد ما يقرب من 12 إلى 15 كلب
جالسين. كانوا هادئين وبدا عليهم أنهم فجأة قد إنتبهوا لوجودي مثلما إنتبهت انا
لوجودهم فجأة. اتخذت قراري بسرعة، أمسكت عصاي الصغيرة، وإندفعت منطلقاً بدراجتي،
بدأوا في ملاحقتي بسرعة، لكن ربنا ستر، ونجحت في الإفلات منهم. لا شك أن تأخرهم في
الحركة كان عاملاً هاماً لعدم تمكنهم من اللحاق بي.
إتجاهات الريح معقولة،
لكن حالة جانبي الطريق ليست جيدة على الإطلاق. فمن المفترض أن أسير على جانب
الطريق، مطمئناً، وسالماً. لكن الأسفلت على جانب الطريق غير ممهد بشكل سليم. بعض
اجزائه مكسرة، بها حفر وقطع زجاج مكسورة، وأخشاب ملقاة، وبقايا كاوتش سيارات،
واشياء أخرى كثيرة. أما المجرى الرئيس للطريق فهو ممهد ومرصوف بشكل جيد. والمطالع
موجودة بالطبع، لكنها في عمومها غير قاسية... حتى الآن.
أسير بدراجتي في المجرى الرئيسي للطريق، كي أحظى
بفرصة التحرك بسرعة ويسر أكثر. لكنني اعود للحارة الجانبية مرة أخرى كلما سمعت صوت
سيارة تقترب من الخلف. كل ما يحتاجه هذا الطريق كي يكون مهيئاً لسفر الدراجات عليه
بشكل طبيعي هو أن يتم تنظيف ورصف جوانبه جيداً، والمحافظة عليها، مع توسيعها
قليلاً.
قطعت نحو 85 كم،
وفي نحو الساعة الرابعة والنصف، بدأت في النظر حوي بتمعن لإختيار مكان التخييم.
عبرت شريط القطار وبدأت في فك الأمتعة. نصبت خيمتي في مكان بعيد إلى حد ما عن
الطريق. وضعت كل امتعتي بالخيمة. خيم الظلام، فخرجت من الخيمة منشرحاً أستنشق
الهواء البارد بالغ النقاء. بدأت اشعر بالراحة والسكينة والهدوء، بل والآمان، في
هذا الخلاء المفرط السكون. لم يعد ما هو خارج الخيمة رمزاً للمجهول المثير للقلق
كما كان شعوري به في اليوم السابق، بل اصبح بالنسبة لي مدعاة للراحة والسلام.
نمت مبكراً،
وإستيقظت مبكراً. بدأت يومي الثالث في حالة جيدة نفسياً وبدنياً. سرت بالدراجة بلا
مشاكل كبيرة، لكن بحذر مخافة ظهور أي مخاطر غير متوقعة. ما زلت أعاني من تعطل ناقل السرعات الأمامية. وهو ما يزيدني قلقاُ من تعرضي لهجوم من الكلاب
وعدم قدرتي على التحرك بالسرعة الكافية للإفلات منهم. أصل للإستراحة الكبيرة
الموجودة على الطريق، وأدخل بدراجتي للمطعم. ينظر لي الناس بإندهاش، ويزداد
إندهاشهم حين يعرفون أنني مصري. يرحب بي القائمون على الإستراحة، ويحكون لي عن
أسرة فرنسية تسافر بالعجل، مرت بهم منذ عدة ساعات، وسبقتني على الطريق. أتناول
غذاء يتكون من نصف فرخة، وأرز وخضار. أشرب عصائر، وأشتري ما ينقصني لإستكمال
الطريق. أشعر أن هذه الوجبة قد "رَمِت عظامي"، كما يقولون. أنطلق على
الطريق بعد أن شحنت معدتي... وتليفوني المحمول.
أعطاني الغذاء
الجيد والنوم الجيد طاقة كبيرة للسير بالدراجة بسرعة. سرت أفكر في هذه الأسرة التي
تسافر معاً بالدراجة. كنت أريد أن أقطع 100 كم في ذلك اليوم، ثم اتوقف قبل الغروب.
لكن قبل أن أستكمل هذه المسافة بقليل، وجدت إستراحة إسعاف تقف بجوارها عدة دراجات
متراصة بجوار بعضها البعض. قررت الإكتفاء بال95 كم التي قطعتها اليوم، وقدت دراجتي
نحوهم.
جريج رجل فرنسي،
قرر أن يسافر مع شريكة حياته، سيسيلي، بالدراجة عبر تونس، مروراً بليبيا، ثم مصر،
وصولاً إلى السودان. إلى هنا والقصة عادية. اما غير العادي في قصتهم، فهو انهم يصطحبون
معهم ثلاثة من الأطفال، أكبرهم في السابعة!
يقود الأبن
الأكبر دراجته الصغيرة، مثله مثل ابويه بالضبط. في حين يجلس الطفلان الأصغر سناً،
واللذان يبلغان الخامسة والثانية من العمر، في عربة صغيرة بعجلتين، يجرها الأب خلف
دراجته. سافروا بهذه الطريقة عبر تونس، وأثر فيهم كرم الضيافة والأخلاق التي
عاملهم الناس بها هناك، مما ترك لديهم إنطباعاً جيداً للغاية عن الإسلام. وحذرهم
الناس من السفر عبر ليبيا، فشحنوا دراجاتهم عبر الطائرة إلى القاهرة. ومنها تحركوا
بالدراجات إلى الواحات. كان هذا يومهم التاسع على الطريق، في حين كان هو اليوم
الثالث بالنسبة لي.
قررت قضاء ليلتي
معهم. نصبوا خيمتهم في غرفة مبنية من الحجر أمام شريط القطار مباشرة. في حين قضيت
انا ليلتي في الغرفة الأصغر المواجهة لها. جلسنا نتبادل الحديث طويلاً بعد العشاء،
فتأخرت في النوم، واستيقظت في الصباح وأنا لم احصل على قدر الكافي من النوم.
قبل أن نتحرك في
الصباح، أخذت أنا وجريح نتناقش في مشكلة ناقل السرعة الذي لا يمكنه العمل بشكل
طبيعي. قدحنا زناد فكرنا معاً، وخلصنا إلى أن السبب يتمثل في مسمار تحرك من مكانه
عن طريق الخطأ. أصلحنا المشكلة بفضل الله، وإنطلقنا على الطريق. سرت معهم بعض
الوقت، منبهراً بقدرة إبنهم على مواصلة ركوب دراجته بنشاط وأداء مرتفع. بعد قليل، سبقتهم،
وسرت في طريقي، بعد ان ودعتهم، تاركاً إياهم يسيرون معاً بإيقاعهم الخاص.
أخذت اتأمل في
هذه الأسرة العجيبة الشجاعة. دفعتني الطريقة التي يواجهون بها ما يتعرضون له من
مخاطر لمراجعة حساباتي. حين تهاجمهم الكلاب، لا تكون لديهم أدنى فرصة للهرب منها،
نظراً لحمولتهم الثقيلة ووجود الاطفال الصغار. لكن ما يفعلونه هو أن يتجمعوا معاً
ويبدأوا في الصراخ والتلويح للكلاب بغضب، حتى تنصرف عنهم. المضحك ان جريج كان
يتصور ان إقحام الكلمات القليلة العربية التي يعرفها أثناء صراخه، سوف يردع الكلاب
أكثر مما لو صرخ فيهم بالفرنسية!
جعلتني طريقتهم
الشجاعة أشعر بأن مواجهة الكلاب بشكل مباشر قد لا تكون نهاية المطاف. وأن هناك
دائماً خطة بديلة لمواجهة المواقف المختلفة. كما شعرت كذلك أن ربك
"بيسترها" مع الجميع. كان لقائي بهم ملهماً للغاية بالنسبة لي.
كنت أعلم أن
الطريق قد نال منهم وأنهكهم. وأنهم يحاولون الحصول على سيارة نصف نقل تنقلهم
بدراجاتهم وأمتعتهم للواحات البحرية. ويبدو أنهم نجحوا في ذلك، إذ بينما كنت أصعد
مطلعاً شديد الوعورة بعد عدة ساعات، وجدت سيارة نقل تقف امامي، وهم عليها. تبادلنا
عبارات الترحيب والود. عرض على السائق إصطحابي معهم، شكرته بلطف. إبتعدوا عن ناظري بالسيارة وهم يلوحون بأيديهم،
وأكملت طريقي بدراجتي.
ويبدوا ان ركوبهم
السيارة كان في الوقت المناسب. فقد اصبح الطريق في غاية الصعوبة مع تغير إتجاهات
الرياح، ربما نتيجة تغير إتجاهات الطريق نفسه. أصبحت الرياح معاكسة لدرجة انني كنت
بحاجة للتبديل بالدراجة، بكل ما اوتيت من قوة، بدون أن يؤدي ذلك إلى تخطي الدراجة
سرعة 12 أو 15 كم في الساعة، على أقصى تقدير. ولا يوجد أسخف من أن تكون على منحدر (مَنزَل)،
يفترض أن يريحك في التبديل، لتجد الريح المعاكسة من القوة بحيث تكاد توقف الدراجة،
رغم قيامك بالتبديل بقوة شديدة كي تتمكن من الهبوط. واجهت جزءاً من الطريق مكسراً
وغير مرصوف، اضطررت للنزل من العجلة والسير بجوارها لكيلومترين، حتى عاد الطريق
مرصوفاً. لكن يبدو انه قد تم رصف هذا الجزء منه حديثاً، فسرت على الطريق ورائحة
الأسفلت تفوح منه.
زادت المنحدرات
(المنازل)، لكن أصبح هناك مطالع كثيرة ايضاً، بعضها بالغ القسوة. زادت درجة
الحرارة. اتوقف من آن إلى آخر للراحة وشرب الماء. لا توجد سيارات نقل كثيرة متوقفة
على جانب الطريق كي اتزود منها بالماء. الطريق لا تعبره السيارات إلا قليلاً.
اسمعها عن بعد، من فرط السكون المحيط بي. أخيراً أجد سيارتي نقل متوقفتين. أسألهم
عن مياه، فيصرون على ان أجلس معهم لأستريح، وأشاركهم في تناول وجبة تمر منعشة.
زودني التمر بالطاقة. شكرتهم وإنطلقت.
وجدت العداد يقوم
بالتصفير من تلقاء نفسه، للمرة الثانية. كان هذا خللاً سخيفاُ. أشتريت العداد قبل
السفر مباشرة، ويبدو أنه كان مضبوطاً بشكل يجعله يصل لرقم محدد ثم يعود للصفر.
حاولت ضبطه أكثر من مرة، وأنتهى الأمر بأنه توقف عن عد المسافات وقياس السرعة
تماماً، ولم يعد يعمل منه سوى الساعة.
أخذت أفكر أن ما
حدث للعداد، هو نفسه بالنسبة لي، ما حدث لمصر مع الثورة. فقد كان هناك أوضاع فاسدة
تستدعي الضبط والتغيير، ثار الناس سعياً لإصلاحها، لأنها لم يكن يمكن لها أن
تستمر. لكن ما حدث على مستوى الواقع هو أن الأوضاع تدهورت اكثر من ذي قبل. قلت
لنفسي، لم أخطئ بمحاولة ضبط العداد، فلم يكن يمكنني تركه هكذا بدون ضبط. سأستمر في
محاولة إصلاحه حتى يعمل مرة أخرى بإذن الله. وهو ما نجحت في تحقيقه بالفعل في
اليوم التالي. ملأني نجاحي في إصلاحه بعد محاولات عديدة، بالأمل في مستقبل مشرق
لمصر، فقط علينا الا ينتابنا اليأس من تحقيق ذلك.
كانت هناك مجموعة
من اصدقائي عائدة من الواحات بعد رحلة إستمرت عدة أيام لدراسة الفلك في الصحراء.
كان التزامن بين عودتهم من الواحات وذهابي هناك محض مصادفة. نسقنا معاً من خلال
التليفون المحمول، بحيث يجدونني على الطريق. توقف الأوتوبيس الذي يقلهم لأفاجأ
بترحيب وإستقبال حافل من اصدقائي الأعزاء. التقطنا الصور معاً، وزودونني بالطعام والشراب،
الذي كان قد بدأ ينفذ مني. ودعنا بعضنا البعض. وأكملت طريقي سعيداً بلقائهم.
خيمت تلك الليلة
قبل الغروب، كعادتي. ونمت مرهقاً.
إستيقظت في اليوم
التالي وانا غير متأكد من المسافة الباقية، لكنني قدرتها بنحو 50 كم، بناء على ما
اخبرني به بعض السائقين. سرت قليلاً في مواجهة نفس الظروف القاسية الموجودة باليوم
السابق. وصلت إلى منطقة مليئة بالشجر تدعى "المناجم". قابلت فيها أول
كمين للشرطة اقابله منذ غادرت بيتي بالمعادي. لم يصدقوا أنني مصري إلا بعد الإطلاع
على بطاقتي. بدت كل إستفسارتهم أقرب للفضول منها إلى الأسئلة الأمنية. أخبروني أن
امامي حوالي 40 كم، بها كثير من المنحدرات. كان هذا حقيقياً، لكن كان هناك مطالع
كثيرة ايضاَ. ناهيك عن أن الرياح العكسية لم تجعلني اهنأ بالمنحدرات،وأحالت حياتي
إلى جحيم. عانيت في اليوم الأخير، على قصره، كما لم أعاني في الايام السابقة، على
صعوبتها.
وصلت الباويطي في
الواحات البحرية قبل العصر. كنت مرهقاً للغاية، وفي منتهى الجوع. كما كنت أشعر
بآلام شديدة في ركبتي اليمنى. ومع ذلك كنت اشعر بالسعادة لأنني نجحت في تحقيق ذلك.
لكن ذلك كان أولاً واخيراً ..... بفضل الله
تأثرت جدا وأنا أقرأ يومياتك يا محمد وربنا يوفقك، قلوبنا معك ودعواتنا وصلواتنا.
ردحذفبطل وربنا معاك ويوفقك علطول وبجد الهمتنا واشعلت فينا حماس
ردحذفرجعت ازاى بقى
ردحذفعاش يا بطل تجربه رائعه وفريده
ردحذفخير مثال على الارادة والاصرار على النجاح
ردحذفربنا يوفقك يا محمد ويبعد عنك كلاب السكك :D
ردحذفبتوفيق الله ورعايته يا محمد
ردحذفكانت صدفة غريبة أن أجد تليفوني يضرب نمرتك، وترد على للتو، كنت أريد أن أطمئن عليك، والحمد لله. أنت في رعاية الله. ونحن في انتظار أخبارك بفارغ الصبر.
ردحذفربنا معاك ويقويك يا محمد... أشعر من كلماتك بمواجهة ما تواجهه أخي الحبيب.. وفقك الله وقواك وحفظك...
ردحذف