الاثنين، 2 ديسمبر 2013

12- رحلة حول مصر بالدراجة- الداخلة- موط

 غادرت القصر، متجهاً إلى موط، المركز الرئيسي لواحة الداخلة، والتي تبعد عنها بنحو 35 كم. لم أسلك الطريق الرئيسي القادم من الفرافرة. وإنما اخترت طريق أخر يسير بين القرى والحقول، ويبعد عن موط بنفس المسافة، تقريباً.

سرت بدراجتي على الطريق، ومن حولي مزارع وأراضي خضراء، بها تجمعات بديعة للمياه، وأسوار للمزارع والبيوت تتسم بالبساطة والجمال. وأشاهد الصحراء والتلال الصخرية، من وراء الشريط الأخضر الزاهي، المحيط بالطريق. ومن آن إلى آخر، يمر رجل على موتوسيكل، وأحياناً ما قد تجد زوجته خلفه. فالموتوسيكل وسيلة مواصلات أساسية هنا.

أستوقف رجلاً على موتوسيكل، لأسأله عن الطريق، فينظر إلي بشك وتعجب، لا يصدق أنني مصري. يظل يستفسر عما جاء بي إلى هنا، ويسألني عن أسمي ومهنتي، وأنا أرد عليه مبتسماً. يتعجب هو من وجودي، وأتعجب أنا من تعجبه.

على جانب الطريق، ألمح سيدة مسنة، لو قيل لي أنها تناهز المائة، لصدقت بسهولة. ظهرها محني، وكأنها تركع للصلاة. وجهها أقرب للارض منه للسماء.
كانت تسير على هذا الوضع، وهي تجر "شنطة" على الأرض. توقفت وتحركت نحوها قائلاً: "أشيل معاكي يا خالة؟"..لم أستوضح ما تقوله، لكن بدا انها تشكرني، ثم سألتني عمن أكون، فأجبتها: "لأ..أنا مش من هنا.. أنا غريب". وجهت وجهها نحوي، وقالت: "ما شاكلكش مش من هنا...شكلك من أهل البلد يا ولدي". ولما كان شكلي بالدراجة، وما عليها من حمولة، مرتدياً الخوذة، لا يمكن أن يوحي بأنني من اهل البلد، بأي حال من الأحوال، ناهيك عن لهجتي القاهرية. فقد إعتبرت تشبيهها لي بأنني من أهل البلد، تكريماً لي. تركت العجلة مستندة إلى شجرة. وحملت عنها الحقيبة للأمتار القليلة الباقية، حتى باب دارها. ثم تركتها مصحوباً بكلمات لم أسمعها بوضوح، لكن بدا واضحاً، من طريقتها، أنها تدعو لي. شعرت بيومي يمتلئ "بالبركة" للقاء هذه السيدة. وأكملت طريقي مستبشراً، ومنشرحاً. ما أجمل أن تُمنج الفرصة، وأنت على طريق السفر، كي تساعد غيرك، ولو بشئ بسيط للغاية. كما يقدم لك غيرك يد المساعدة، وأنت على الطريق.

أمر على القرى، واحدة تلو الأخرى. الناس، بشكل عام، ودودون للغاية. أواجه صعوبة في رفض دعوات الشاي وتناول الغذاء المتكررة، من مختلف الناس الذين اقابلهم على الطريق. لكنني أعتذر بلطف، وأستكمل طريقي إلى موط.

أمر على قرية القلمون. بها بحيرة تكونت من مياه الصرف الزراعي، وتُعرف بنفس الاسم. ويقال ان هذا الاسم له جذور فرعونية، ومعناه "عرش آمون". وقد كان بها قرية عربية قديمة، لكن الزمن قد نال منها الآن. والقرية تسكنها عائلة الشهداء، الذين ترجع أصولهم إلى المغرب، والغز، الذين ترجع أصولهم لمدينة غزة، بفلسطين، وغيرهم.

ويحكى أنه منذ زمن بعيد، كانت هناك عصابات مسلحة، تأتي هي أيضاً، من بعيد. كانوا يأتون من "تشاد"، ويقومون بمهاجمة الواحة، ونهب الثمار، وخطف الفتيات الجميلات. ثم يعودون إلى بلادهم، مرة اخرى، بكل هذه الغنائم. فما كان من عائلة "الشهداء" في القلمون، إلا ان قامت باستدراج هؤلاء المجرمين، ونصبت لهم الشباك. فلما سقطوا فيها، إنهالوا عايهم ضرباً، بالجزء السميك من جريد النخيل. ولقنوهم درساً قاسياً. ولكن هذا، لم يكن الدرس الوحيد، الذي لقنوهم أياه.

كانت العصابات التشادية، تأتي من بلادها، حاملين ضِعف كمية المياة، التي يحتاجونها للوصول إلى الواحة. ثم يقومون بدفن الكمية الزائدة، عند منتصف الطريق، بين بلادهم، والداخلة. ويستمرون بما معهم من ماء، حتى يصلوا إلى الواحة، ويمارسوا عادتهم في السلب والنهب. ثم يعودون ادراجهم، حاملين معهم كمية من الماء، تكفي لمنتصف الطريق فقط. ويحصلون على حاجتهم من الماء، لباقي الطريق، من الجرار التي كانوا قد ملأوها بالمياه، وخزنوها في مكان، يحفظونه عن ظهر قلب.

وعلمت عائلة الشهداء بالتكتيك الذي يطبقه التشاديون للتزود بالماء. فانتظروهم حتى هاجموا الواحة مرة أخرى، وانطلقوا هم إلى الصحراء، سائرين على نفس الدرب الذي أتى منه التشاديون. حتى وصلوا إلى وادي، وجدوا فيه ما يقرب من ثلاثمائة بلاص، مليئة بالمياه. فقاموا بتكسيرها كلها. بحيث لم يجد التشاديون أي مخزون من الماء لدى عودتهم، فهلكوا من العطش، بعد أن نفذ، ما كان قد تبقى معهم من ماء. ومازالت الجرار التي تم تكسيرها موجودة، بحالتها، في نفس المكان الذي عثرت عليها فيه عائلة الشهداء. ويعرف منظموا رحلات السفاري هذا المكان باسم "البلاص". وقد حكى لي أحد اهالي الواحة، أن باحثاً المانياً معروفاً هنا، يدعى "كارلو"، أخبره انه قد عثر على الهياكل العظمية الخاصة بهؤلاء التشاديون في إحدى المناطق الصحراوية، على الدرب المؤدي إلى بلدهم.

تخطيت القلمون، حتى وصلت إلى نقطة يتقاطع فيه الطريق الذي سرت فيه بين القرى، مع الطريق الأصلي القادم من الفرافرة. لأصل إلى موط، بعد نحو خمسة كيلومترات.

دخلت موط، فوجدتها مدينة، ككل المدن. ولا أريد أن اظلمها، فقد رأيتها بعد "القصر" مباشرة. ومن يشاهد القصر وسحرها، ويمكث بها لعدة أيام، يكون من الصعب جداً أن يعجبه اي مكان آخر، بسهولة.

موط لا يمكن وصفها بالمكان الهادئ، ففيها حركة مارة، وسيارات. وفيها اسواق وخدمات أساسية جيدة. لكنها بالتأكيد أكثر هدوءاً من القاهرة، وسائر المدن الكبرى في مصر. والوجوه هنا عادية، لا شئ يعيبها، لكنها ليست بالطيبة والسماحة غير العادية، التي لمستها عند الكثيرين في القصر، والقرى الأخرى، على الطريق المؤدي إلى موط.

تمكنت من شحن الـ USB، وشراء أدوية كانت تنقصني، ولم تكن متوافرة في موط نفسها. لكن الصيدلية أحضرتها لي من أسيوط، كما سحبت بعض النقود من ماكينة الـ ATM. باختصار، أخذت موط مني الهدوء، وراحة البال، ودفء المشاعر الإنسانية التلقائية، ولكنها منحتني خدمات أساسية كنت بحاجة إليها. أتساءل بيني وبين نفسي، هل هناك تعارض بين توافر مثل هذه الخدمات، وبين المحافظة على القيم الأصيلة، والترابط الإنساني، في المجتمعات التقليدية؟

وقد لفت نظري، وجود عدد مبالغ فيه، من الصيدليات، التي أحياناً ما تكون شديدة القرب، من بعضها البعض. كما يوجد عدد كبير جداً من محلات الحلاقة، لا يتناسب مع الكثافة العددية للسكان في المدينة.

زرت موط القديمة، فوجدتها مجموعة من الخرائب. يسكن في عدد قليل من بيوتها ، بعض الفقراء، الوافدين من الصعيد. وأحياناً ما يستخدمها بعض من يعملون بالتجارة منهم لتخزين بضاعتهم. شاهدت هذه الأطلال، مع غروب الشمس، وكانت حالة المدينة سيئة، بحيث كنت أسمع صوت الخفافيش وهي تتحرك، داخل أحد البيوت. سألت أحد المارة من أبناء المكان عن مدى خطورتها على البشر. أخبرني بأنها لا تهاجم اليشر أبداً، لكنها، وفقاً، لقوله، تتغذى على دماء الحيوانات، بما فيها البهائم. لا اعرف سبباً علمياً يجعل الخفاش، ينتقي الحيوان دون الإنسان. لكنني أترك تفسير هذا الكلام، إن صح، لأهل الإختصاص.


عرفت بوجود متحف لتراث الواحة، وأن مفتاحه بحوزة بعض الموجودين عند قصر ثقافة الداخلة. توجهت اليهم فأبدوا قدراً كبيراً من الإهتمام. وقاموا بالإتصال بالموظف المختص، الذي أبدى اعتذاره نتيجة حدوث عطل في الباب الوحيد للمتحف، وهو ما يتطلب يومين لإصلاحه. لم استطع الإنتظار أكثر من ذلك، فما زال أمامي الكثير لأشاهده خلال جولتي حول مصر، بالدراجة.

كان أكبر ما استفدته من إقامتي بموط، هو أنني حظيت بفرصة إستكمال ما أكتبه عن الداخلة، بمدنها وطرقها وقراها. والآن، أستعد للرحيل إلى محطتي التالية...واحة الخارجة.

هناك تعليق واحد:

  1. يبدو كما لو أن الماكينات, الأسفلت, هياكل السيارات, حافظات النقود, الكهرباء و موجات الإتصالات و غيرها..كلها تقتات على أرواح البشر! الله يكفيك المخاطر و يحنن عليك قلوب خلقه (Y)

    ردحذف